فوجئت كغيري في ذلك اليوم في النصف الأول من عام ١٩٨٠ بجلبة في كفتيريا الطلبة في جامعة اليرموك وأنا أقف على طابور لأخذ وجبتي، لأجد خلفي دولة الشريف عبد الحميد شرف رئيس الوزراء آنذاك، وخلفه رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور عدنان بدران (دولة فيما بعد)، وكان "أبو ناصر" رحمه الله قد تولى رئاسة الحكومة في التاسع عشر من ديسمبر عام ١٩٧٩، اختار الراحل وجبته، وحمل صينية الطعام بيديه، فيما كنت متسمراً منتظراً متسائلاً: إلى أي طاولة سيتوجه هو ورئيس الجامعة الذي ربطتني به علاقة محبة منذ كنت طالباً، كنت في سنتي الأولى على مقاعد الدراسة في دائرة الصحافة والإعلام، وقد تبعت خطوات رئيس الوزراء ورئيس الجامعة الذي انتبه إلي وأذن لي بالجلوس في المعية، وتحلق زملائي وزميلاتي من الطلبة حول تلك الطاولة، وهو ما أراده رئيس الحكومة، فهو لم يفعل ذلك لأنه صاحب مشروع "ترشيد الاستهلاك" فقط، فرفض أن تقيم رئاسة الجامعة على شرفه "مناسف"، ولكن لأنه أراد أن يجلس إلى الطلبة، يأكل معهم، ويقيم حواراً، وهذا ما حدث.
وأذكر أن طالباً سأل الراحل سؤالاً، فابتسم في وجهه وقال: أنت طالب سنة أولى، قال: نعم، قال: عرفت، قال وكيف عرفت؟ قال: لأنك لو كنت في السنة الثانية أو الثالثة، لما سألت هذا السؤال، فارتفعت الضحكات، وضحك الطالب وقد احمر وجهه، وعندما ودع الشريف عبد الحميد الطلبة، وضع يده على كتف ذلك الطالب وربّت بيده وهو يغادر بصحبة الدكتور بدران، وشخصيات الجامعة البارزة.
وقد ظل عبد الحميد شرف نقطة ضياء في ذاكرتي، وكنت شديد الإنصات إلى زوجته المثقفة الدمثة ليلى شرف، الوزيرة السابقة والعين، وهي تحدثني عن فكر الرجل، قالت لي: أكثر ما كان يزعج "حميد" - هكذا كانت تناديه - كلمة "مطالب"، كلما زار مدينة أو قرية أو ناحية، قُدّمت له قائمة مطالب، قلت: ماذا كان يريد؟ قالت: كان يرى أن العلاقة بين الحكومة والشعب يجب أن تقوم على مبدأ المشاركة، وليس تلبية المطالب.
وللحق، فإن تلك المعاني لم أستوعبها بشكل عميق إلا لاحقاً، فقد ألِف المواطن الأردني منذ نشأة الدولة، فكرة الدولة الريعية الأبوية التي تلبي المطالب، ولم يكن معنياً بشكل كبير في المشاركة باتخاذ القرار السياسي، طالما أن الدولة تلبي مطالبه، تعلم أبناءه، وتوظفهم، وتفي باحتياجاته الأساسية، وعندما تضاعف السكان، وشحت الموارد، وكثرت الضغوط، وباتت الدولة غير قادرة على استيعاب الأعداد الكاملة المتزايدة من الخريجين، بدأ المواطن يشعر بالضيق، حيث لم تعد الدولة تلبي المطالب، فأخذ يراقب، بل تفتحت عيونه على أخطاء لم يكن يراها في سلوك الدولة الفتية، أو أنه كان يتجاوزها طالما أن مطالبه ملبّاه، واستفحل الأمر عندما ازداد الترهل، وكثرت السلبيات، والقصور في الأداء، وقلت المواءمة بين الحاجات والإمكانات، وأصبح للفساد عنواناً.
وتلك علاقة غير صحية من أساسها، فالمواطن يجب أن يكون شريكاً، والشراكة لها أسس وقواعد يجب أن تنظمها، فأنت كمواطن، شريك في المكتسبات. ومن حقك أن يكون لك نصيب عادل في الفرص بمفهومها الشامل، وشريك في اتخاذ القرار ، ولكن أيضاً شريك في تحمل المسؤوليات، وفي تنمية المصادر، وفي مواجهة التحديات والأخطار، لكن المواطن لم يأخذ فرصة في مشاركة حكومات لم تمنحه فرصة للمشاركة الحقيقية في صناعة التنمية، وصناعة استمرارها .
ومنذ رحيل عبد الحميد شرف في الثالث من تموز ١٩٨٠، ونحن نذكره بالخير ونترحم على روحه، ونستذكر فكره النير، وغيابه المؤلم، وحاجتنا لأمثاله، فقد صدق الملك الحسين رحمه الله عندما قال: "غاب عنا الفارس"، ووصفه بأنه "رجل دولة كبير، ومصلح متقدم في عصره".
وقد كان عبد الحميد شرف قريباً من قلب الملك الراحل منذ حضر حفل عقد قرانه في باريس، وسافر لمشاركته فرحته وعروسه يوم الخامس والعشرين من نفس الشهر الذي رحل فيه الفارس، ولكن عام ١٩٦٥، وكان الحسين قد بعث إليه ببرقية قال فيها: "لك مني أحر التبريكات وأصدقها، وللعروسة أيضاً، أرجو أن نكون في باريس في ٦٥/٧/٢٥ وهو تاريخ وصولكم، مع أشواقنا وأطيب تمنياتنا، والتهاني مرة أخرى يشاركني في إرسالها لكما الحسن ورعد وإكليل والجميع هنا".
أعتقد جازماً أن عبد الحميد كان يتحدث عن ترشيد استهلاك الحكومة، أما الشعب، فهو "مرشّد بالطبع"، وقام بواجباته في شد الأحزمة على أكمل وجه، وقد جاء موعد تغيير لائحة المطالب، لتخرج من الضيق إلى الرحب، ومن الشخصي إلى العام، ومن المناطقية إلى الوطنية، ومن الفئوية إلى الشمولية، تضع مصلحة الوطن العليا فوق كل الاعتبارات.
ولإعادة ترتيب العلاقة بين الحكومة والشعب، يجب عليها أن تتعرف على حاجات الجيل الجديد، ورؤاه، وقدراته، وتطلعاته، ومعرفة كيف يفكر، فالذين تقل أعمارهم عن الخامسة عشرة يمثلون حسب إحصاء العام الماضي ٣٥٪ من عدد السكان، فيما تبلغ نسبة من هم بين الخامسة عشرة والستين ٦٢٪ من عدد السكان، وهذا يعني أن الذين يمثلون النسبة الباقية وهي ٣٪ هم الذين تزيد أعمارهم عن الستين، وهم الذين يقودون ال ٩٧٪ .
وحتى تحقق الحكومة هذا الهدف، عليها أن تقترب من فئة الشاب، أن تقترب أكثر، وتقترب، ثم تقترب .
رحم الله الحسين، ورحم عبد الحميد شرف.