عندما يفقد الوطن رأسماله ..
سمير حجاوي
10-05-2010 06:59 AM
العمالة الأردنية في مهب الريح فقد تراجع الطلب عليها بنسبة 30 في المائة داخليا و43 في المائة خارجيا خلال الشهور الأربعة الأولى من هذا العام مقارنة مع العام الماضي .
وبحسب دراسة أجراها مشروع المنار في المركز الوطني لتنمية الموارد البشرية فقد انخفضت فرص العمل المعلن عنها في الربع الأول من عام 2010 لمعظم المهن، مقارنة بأعدادها في الربع الأول منا العام الماضي، فقد انخفض الطلب الداخلي على المهندسين بنسبة 56 في المائة والممرضين بنسبة 41 في المائة والصيادلة بنسبة 31 في المائة والأطباء بنسبة 30 في المائة والمحاسبين بنسبة 28 في المائة والمعلمين بنسبة 27 في المائة، وخارجيا انخفض الطلب على المحاسبين بنسبة 80 في المائة والمهندسين 50 في المائة والمعلمين بنسبة 40 في المائة والصيادلة 33 في المائة والأطباء بنسبة 32 في المائة .
الجدير بالاهتمام أن التنافس على فرص العمل زاد بشكل كبير مما أعطى عارضي الوظائف فرصة كبيرة للاختيار وأدى ذلك بالطبع إلى التركيز على أصحاب المؤهلات العالية من حملة المؤهلات الجامعية والاختصاصيين الفنيين الذي عرضت عليهم 65 في المائة من فرص العمل، وحصل الحرفيون على 15% من الفرص في حين أن حملة دبلوم كليات المجتمع لم يحصلوا سوى على 9 في المائة من الفرص المتاحة.
مقارنة مع العام الماضي تراجع الطلب داخليا على كل المهارات الأردنية من الاختصاصيين بنسبة 40 في المائة والحرفيين بنفس النسبة في حين لم يتراجع الطلب على الفنيين إلا بنسبة 15 في المائة .
وخارجيا تراجعت فرص العمل على الاختصاصين بنسبة كبيرة جدا بلغت 45 في المائة، وحظي المهنيون والحرفيون بفرص عمل ضئيلة في حين زاد الطلب على الفنيين بنسبة 3 في المائة.
هذه الأرقام "تدوخ" رأس أي قارئ لها، وفيها الكثير من التفصيلات والتعقيدات الحسابية، لكن الأهم هو ما تحتويه من معاناة إنسانية كبيرة، فالإنسان يدرس ويتعلم ويجتهد من اجل أن يحصل على فرصة عمل تضمن له حياة كريمة على المستوى الشخصي والعائلي. وهي تحمل أيضا في طياتها معاناة للوطن الذي لا يجد أبناؤه فرص عمل فيتحولون إلى عاطلين عن العمل، عالة عليه، وعبء على اقتصاده ومجتمعه بدل أن يكونوا رافدا مهما وموردا للرفاه الاجتماعي والاقتصادي والتقدم السياسي والحضاري.
هل يمكن أن نربط تزايد جنوج مجتمعنا الأردني للعنف بهذه الأرقام المفزعة، وهل يمكن ان نفسر انزلاق المجتمع إلى الأمراض النفسية والعصبية بفقدان فرص العمل. وا يترتب على ذلك من انسداد أي افق لبدء حياة طبيعية.
لا اريد ان اقفز الى نتائج تحتاج معطياتها الى مزيد من الدراسة والتمحيص والتحليل، ولكن في الامر على الاقل مؤشر على خطورة ما يجري. و هي ارقام يجب ان "تدوخ" رؤوس المسئولين في الدولة، فوجودهم في مناصبهم ووظائفهم هو من اجل توفير إدارة جيدة للمجتمع والسهر على راحته وتوفير ححياة كريمة لابنائه وليس لاسباب اخرى.
قبل سنوات بعثت برسالة إلى شخصية أردنية مرموقة ونافذة حذرت فيها مما يجري وقلت له بالحرف الواحد " أخشى ان يتحول الأردنيون إلى عمال مياومة على أرصفة العالم إذا لم نتحرك الآن".. فالسوق الخارجي الرئيسي للعمالة الأردنية هي دول الخليج، وهذه السوق تشهد تحولات عميقة وجذرية فحكوماتها فيها تصرف على التعليم مبالغ طائلة لتعليم أبنائها الذين سيحظون بفرص العمل فيها، وهذا حق لهم طبعا" وتستورد العمالة الرخيصة من الدول الآسيوية، فالمهندس أو الطبيب الآسيوي يكلف ربع تكلفة نظيره الأردني، اما مهن الحاسوب والالكترونيات والانترنت فقد أصبحت ملعب الآسيويين المفضل، وقد اثبتوا براعة قل نظيرها إلى درجة أن أوروبا وأمريكا أصبحت تعتمد عليهم. أما العمالة غير الماهرة فان الأردنيين لا يستطيعون المنافسة بسبب رخص أجور الآسيويين.
بعيدا عما يمكن اعتباره حساسيات أو استهداف شخصي أو معارضة أو مناكفة، فان الحكومات الأردنية ،الحالية والسابقة، قصرت كثيرا في التعامل مع هذا الملف، وانشغلت بالبحث عن حلول أمنية لطالبي الوظائف أو طالبي زيادة رواتبهم كما حصل من موظفي ميناء العقبة أو المعلمين أو عمال المياومة ، وهي حالة تزيد من حالة الاحتقان والغضب.
وفشلت كل الحكومات في التعامل مع ملف إيجاد فرص عمل للأردنيين في الخارج وتحديدا في دول الخليج، وعمدت إلى انتهاج سياسة غض الطرف " والتطنيش". وعمدت إلى تخفيض الأرقام المتعلقة بالفقر والبطالة، واذكر أن احد موظفي الصف الثاني في إحدى الوزارات زودني ذات يوم بتقارير تحتوي على الأرقام الصحيحة ، وقال لي هذه هي التقارير الدقيقة، ثم اخرج من درجه تقريرا آخر "ابيض تشرق منه اشعة الفرح والتفاؤل " وقال لي هذا هو التقرير الذي سيعرض على الديوان الملكي، ولا زلت احتفظ حتى الساعة بنسخة من احد التقارير الصحيحة التي تم استبدالها والتي لم يرها إلا عدد قليل من الناس.
لا أريد أن أناكف أحدا، لكنني أريد أن أدافع عن انسان ووطن يستحق منا ان ندافع عنه بالفعل لا بالقول، وطن تهدده إسرائيل من الغرب باستيطانها و ومشاريعها لتهجير الفلسطينيين وطردهم، ويتهدده من الشرق احتلال في العراق ودورة عنف لا حل لها في الأفق.. وهذا يعني أننا نحتاج إلى تحصين الوضع بتمتين الجبهة الداخلية وهذا التحصين لا يصنعه فقير أو عاطل عن العمل أو من لا يجد قوت يومه، ولا تصنعه حكومات همها كيف تفتت المعارضة وكيف تقصي المنتقدين.. هذا التحصين لا يصنعه مجتمع كفاءاته إما مهمشة في الداخل أو مهجرة في الخارج.. فالإنسان هو أغلى ما نملك، لأنه كل ما نملك من موارد، وإذا فقدنا رأس المال فقدنا الوطن كله .. وجلسنا على أرصفة العالم ننتظر من "يحن" علينا.