بعد أن كان القطاع العام الأردني مفخرة ومضرب المثل في الكفاءة والإنجاز بدأ ينحدر ويتدهور مع تكاثر منظومة الفساد التي برزت بعد طفرة أسعار النفط وتدفق المساعدات العربية والأجنبية على المملكة. ولكن كثرة المساعدات فتحت شهية النهب الذي لم يظهر بوضوح بسبب وفرة المساعدات وبحبوحة العيش. ولم ينتبه الكثيرون للخراب الذي بدأ ينهش في جسم القطاع العام لأن الفاسدين استخدموا حيلة ذكية لإشغال الناس وإسكاتهم.
كلمة السر لتلك الحيلة كان اسمها "الدعم". هذا كان الجزء الأول من عملية التخريب للاقتصاد الوطني فبقي المواطن محافظا على مستوى الاستهلاك مستنزفا الاحتياطي والمساعدات فما أن توقفت المساعدات وانخفض الاحتياطي انكشف الغطاء وظهر الإفلاس.
أساس الخراب في أي اقتصاد هو الدعم حيث يدفع المواطن ثمنا اقل من الثمن الفعلي لأسعار الخدمة أو السلعة وتتحمل الخزينة باقي الكلفة ولكن إلى حين. وهذا الحين لا بد أن يأتي عندما تفرغ الخزينة وهذا ما حدث عام 1989 ولم نتعلم وتكرر عام 1996 قبل أن تشتد عزيمة الحكومة وتخفض بعض الدعم لكنها عادت إليه بشكل أسوأ عبر الدعم النقدي المباشر بحجة إيصال الدعم إلى مستحقيه.
بعد ذلك بدأت المرحلة الثانية من خراب الاقتصاد وهذه المرحلة هي الخصخصة والاستكانة إلى المستثمرين العرب والأجانب الذين أقاموا مشروعات قصيرة العمر ونهبوا المقدرات وغادروا. القطاع الخاص شريك مهم ورديف قوي للقطاع العام ولكن ما كان يجب الاستسلام الكامل له وتسليمه كل المقدرات. لقد كان هناك من ينصح الحكومة بالاعتماد على القطاع الخاص وهذا يعني حكما التساهل في تطوير القطاع العام.
بسهولة انطلت الحيلة على الحكومة وصار الخراب مثل كرة الثلج المتدحرجة التي تكبر وحدها. في الأردن ثلاثة قطاعات رئيسية تدهورت وتم تدميرها وتخريبها بقصد وسبق تعمد لإفساح المجال للقطاع الخاص أن يقوم بالحلول مكانها. وهذه القطاعات الثلاثة هي التعليم والنقل والصحة. كان التعليم الأردني مفخرة وطنية وعربية وكذلك الخدمات الصحية والنقل العام. ما حدث هو نصائح بدعم القطاع الخاص في هذه القطاعات الثلاثة من خلال التقصير المتعمد في نظيراتها في القطاع العام وغيرها من مؤسسات القطاع العام الأخرى بحيث تدفع المواطن للنفور منها فيندفع مجبرا نحو القطاع الخاص الذي يوفر الخدمات نفسها. وعندما تضخم القطاع الطبي الخاص بسبب زيادة الإقبال عليه زاد دخله بشكل كبير فكانت رواتبه كبيرة وأحيانا خيالية وهذا كان فيه إغراء متعمد لأطباء وممرضي وفنيي القطاع الطبي الحكومي الذين اخذوا يتسربون إلى المستشفيات الخاصة.
في مواجهة المشكلة لم تفعل الحكومات شيئا للإنقاذ أو لإجراء معالجة جذرية تعيد الثقة للقطاع العام. استخدمت الحكومة أسلوبا بدائيا لإسكات الناس ومساعدتهم لمساعدة أنفسهم من خلال الدعم والدعم النقدي المباشر والتوسع في التعيينات في الجهاز المدني والمساعدة على التقاعد المبكر لإفساح المجال لتعيينات جديدة استرضاء للضغط الشعبي. وتقوم الحكومة حتى اليوم بإنفاق مبالغ هائلة عبر ما تسميه المساعدة النقدية للمستحقين. فالحكومة تنفق بحسب أرقام الموازنة الرسمية مئة وخمسة وسبعين مليون دينار سنويا على شكل دعم المواد التموينية والمحروقات وهناك بحسب الموازنة معونة نقدية متكررة بقيمة 131 مليون دينار وهناك إنفاق على ما تشير إليه الموازنة تحت بند المعالجات الطبية (ربما كانت علاج مواطنين ومسؤولين على حساب الحكومة في القطاع الخاص أو خارج المملكة) بقيمة 125 مليون دينار. وفي العام الماضي وحده تم توزيع ما يقرب من 120 مليون دينار تحت بند دعم الخبز. هذه المبالغ وحدها تبلغ 551 مليون دينار وهو مبلغ كبير جدا بمقاييس الموازنة الأردنية.
هذا الدعم الذي يبدو إنسانيا في ظاهره هو أحد أسباب الخراب الاقتصادي. فلماذا لا تضاف هذه المبالغ إلى موازنة وزارة الصحة لدعمها من أجل توفير العلاج للمواطنين في مستشفيات الحكومة بكرامة ويسر وسلاسة. بالتأكيد مستشفيات الحكومة الآن قليلة وضعيفة ولكن الفكرة هي أنك لو سألت رجلا إن كان يفضل تقاضي دعم الخبز نقدا أو أن يجد سريرا لابنه في المستشفى فالمؤكد انه سيقول إن سريرا في المستشفى لعلاج ابنه أفضل ألف مرة من 27 دينار سنويا لدعم سعر الخبز.
هذه المبالغ التي تقدم للدعم بصورة غير واقعية لو تصرف على بناء المستشفيات والمدارس وإنشاء شركة نقل عام وطنية فان عوائدها أفضل بكثير. الدعم المباشر والدعم النقدي المباشر باب يتيح الفساد ولا يحل المشكلة. لو تنفق الحكومة بسخاء على رواتب الأطباء والممرضين والفنيين في وزارة الصحة وتساويهم برواتب القطاع الخاص وزيادة عنها مع استخدام أموال الدعم في بناء مستشفيات جديدة ومراكز صحية شاملة تخدم المواطن بطريقة صحيحة وعناية فائقة مثلما هو الحال في القطاع الخاص فلن نجد أي مشكلة في مستشفيات وزارة الصحة ولن تضيع الأموال في الترقيع وملاحقة المشكلات البسيطة التي عادة ما تنشأ بسبب نقص المخصصات.
مشكلة الأردن في الإدارة العامة. سقطت الحكومة في اختبار المشورة غير الصالحة لمستشارين مغرضين انطلت حيلتهم على الحكومة بأن توفير دعم مباشر نقدا ودعما للأسعار سيرضي الناس ويسكتهم عنن فقدان الكثير من الخدمات الناقصة.
المساعدات النقدية للفقراء لا تحل مشكلتهم بل تزيدها عمقا. فالمبالغ التي توزع وتصل قيمتها سنويا إلى أكثر من 130 مليون دينار عبر ما يسمى المعونة الوطنية يجب استثمارها في مشاريع إنتاجية للتشغيل فتكون نتائجها أفضل.
عند قراءة متفحصة لأرقام الموازنة العامة للدولة حسب ما تنشرها وزارة المالية بعنوان "الحسابات الختامية" نجد أن توزيع المخصصات فيه فوضى غير مبررة وغير مفهومة. من أمثلة الإنفاق العشوائي غير المفهوم أن الرواتب والأجور للجهاز المدني تصل سنويا إلى أكثر من مليار وأربعمئة وواحد وخمسين مليون دينار عدا عن المخصصات التي تدفع للمياومات والسفر والمكافآت وصيانة السيارات وصيانة الأثاث وصيانة الأبنية وغيرها من النفقات الجارية التي يمكن تخفيضها لو كان عدد الموظفين اقل.
أطلق رئيس الوزراء شعارا قويا بعنوان الثورة الإدارية. الثورة الإدارية تبدأ بفرض الضبط والربط حسب الأصول وتفعيل مبادئ الثواب والعقاب بعيدا عن المجاملات المعروفة، وفتح باب التوظيف لأصحاب الكفاءات وليس لأصحاب الوساطات والمحاصصات، والتوقف عن الإنفاق العشوائي وتخفيض رواتب الوزراء والأعيان والنواب وكبار الموظفين ووقف المنافع الأخرى التي يتمتعون بها من غير استحقاق، وعلى الحكومة تخفيض أعداد الموظفين وكذلك وقف التقاعد المبكر ووقف الدعم النقدي المباشر والدعم غير المباشر وإعادة النظر في المعونة الوطنية وترشيدها. وكذلك إعادة النظر في كثير من الإعفاءات التي تتم ويساء استخدامها تحت نظر الحكومة من دون اتخاذ أي إجراء.
ثورة إدارية ستكون سهلة ويدعمها كل المواطنين الذين هم على استعداد لتحمل تبعاتها مهما كانت قاسية إن كانت تدار بإخلاص وبصدق وبروح وطنية تسعى لخدمة البلاد والمواطنين. الفساد واضح وظاهر للعيان وأشخاصه معروفون ولم يبق سوى أن يتخذ القرار والضرب بيد من حديد عليهم بعيدا عن المحاصصة والمحسوبيات ورغما عن كل حماية يتمتعون بها مهما كانت.