فئة قليلة لا تُغْريهم الدُّنيا ببريقها ولَمَعانها، ولا يَفْرحون إذا أقبلت، ولا يَغْتمُّون إذ أدبرت، لأنَّهم ارتبطوا مع السَّماء بسببٍ وثيقٍ وميثاقٍ غليظ، فهانت عليهم مَناصبُها، وباتت لا تُساوي في ميزانِهم فَلْسًا ماسحًا تتلاطفه الأيدي في الأسواق.
"الزَّاهدون في المناصب"، كتيّب من القطع الصّغير، صدر سنة 2006م، طوَّف فيه مؤلّفه المؤرّخ الفلسطينيّ السّوريّ شوقي أبو خليل (1941-2010م)، على (27) سبعة وعشرين نموذجًا من نماذج الزُّهد في الولاية والإمارة، الذين تَربَّعوا بقلوبهم فوق السَّحاب، بعيدًا عن طغيان الحياة وسَفْسافها- بدءًا من الصّحابيّ ثابت بن أقرم (ت12هـ) في معركة مؤتة؛ إذْ تنازل لابن الوليد بعد استشهاد القادة الثلاثة، ومرورًا بأبي عبيدة عامر بن الجرّاح (ت18هـ) في "ذات السّلاسل"، وتنازله لعمرو بن العاص (ت43هـ)، وعتبة بن غزوان (ت17هـ)؛ فَتَحَ الأُبُلَّة، واختطَّ مكانها مدينة البصرة، واستعفى ابن الخطّاب من ولايتها.
أمَّا أبو هريرة عبد الرّحمن بن صخر الدَّوسيّ (ت59هـ)، فقد رغب أمير المؤمنين عمر استعماله مرّة ثانية، وكان عَزَله في الأولى عن البحرين، لأنَّه كان ليّن العريكة (سَلِس، حَسَن الخُلُق في معاشرته النّاس)، مشغولًا بالعبادة- فرغبَ فيه لاستقامته وأمانته، فأبى وقال: أخشى ثلاثًا واثنتين: أنْ أقولَ بلا علمٍ، وأحكمَ بغير حُكم، وأنْ يُضرب ظهري، ويُشتم عِرضي، ويُنزعَ مالي.
ومنهم سِبط رسول الله الحسن بن علي بن أبي طالب (ت49هـ)، أصلح الله على يده بين فئتين عظيمتين من المسلمين، والخليفة الصّالح النّاسك معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية (ت64هـ)، خَلَع نفسه، وترك الأمر للنّاس يختارون خليفتهم. ومنهم خامس الخلفاء الرّاشدين، عمر بن عبد العزيز (ت101هـ)، "حالة خاصّة في الزّهد، خليفة تسلّم قيادة الأمَّة دون أن يسعى إليها"، وأبو حنيفة (ت150هـ)، رفض القضاء في زمن المنصور (ت158هـ).
ومنهم سلطان العلماء العزّ بن عبد السّلام (ت660هـ)، قطع الدّعاء للصالح إسماعيل في خطبة الجمعة، لإذنه للصّليبيّين دخول دمشق وشراء السّلاح، فعزله واعتقله وضيّق عليه، وفي مصر باع الأمراء المماليك بالمزاد.
ومنهم الإمام يحيى بن شرف النَّوويّ (ت676هـ)، أبطلَ أمر الظّاهر بيبرس القاضي بحجز بساتين الشّام والحوطة عليها. وقاضي القضاة، تلميذُ العزّ، الشّيخ الحافظ ابن دقيق العيد (ت702هـ)، عزل نفسه عن المنصب، وجمح في وجه السلاطين. والشّيخ سعيد الحلبيّ (ت1259هـ/ 1843م)، شيخ ابن عابدين (1252هـ/ 1836هـ) صاحب (الحاشية)، الذي مَدَّ رجلَه ولم يمدَّ يدَه، وغيرهم وغيرهم.
أمّا الرئيس السّودانيّ عبد الرحمن سوار الذَّهب (1935-2018)، فقد كان مسك الختام؛ برَّ بوعده، وضرب نموذجًا فريدًا في الزُّهد، والقدرة على محاربة هوى النَّفس وطُغيانها في عالم السّياسة؛ فتنازل عن قيادة البلاد بعد سنة من انتفاضة الشَّعب والجيش بقيادته، وَعَدَ فيها الشَّعب السّودانيَّ انتخاباتٍ حرَّة ديمقراطيَّة لحياة مدنيَّة، تُسند فيها الرّاية لمن يُقدِّمونه إلى سدَّة الحكم.