الاصلاح السياسي مدخلاً للاصلاح المالي والاقتصادي
محمد البشير
24-03-2021 03:56 PM
اتخذت الحكومة اوامر دفاع محمودة حتى تاريخ ايار 2020 وكثير من القرارات التي ساهمت في الحد من خطر هذا الوباء، مما دفعنا الى التفاؤل في ان النجاح بمعالجة مشاكلنا المالية، الاقتصادية والاجتماعية ممكن واصبح في متناول اليد، بعد ان كان هناك تعاون رائع شاركت في انجاحه كل مؤسسات الدولة الأردنية وعلى رأسها ( الجيش ، الأجهزة الأمنية ، الحكومة وفي المقدمة منها القطاع الصحي بمختلف اختصاصاته بالاضافة الى مؤسسات القطاع الخاص سواء كانت صحية، غذائية، طاقة او مؤسسات كغُرف الصناعة والتجارة، والنقابات المهنية او النقابات العمالية او نقابات اصحاب العمل )، فالنجاح كان حقيقة بتعاون جميع الناس على اكثر من صعيد ايضاً، سواء بالاستجابة الى اجراءات الحكومة أو بالتعاون معها في تخفيف آثار تدني الدخل أو أعباء الحياة المعيشية بشكل عام.
ضمن السياق اعلاه وللبناء على ما تم من نجاحات كنت اعتقد أن الحكومة ولمعالجة مشكلتنا المالية والاقتصادية تعمل على اتخاذ الاجراءات التالية:
اولا: المالية العامة
ان العقود الثلاث الماضية شهدت تغييرا جوهرية في السياسات المالية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة ادت الى النتائج المالية التي اتسمت بها موازنة 2021 التي بنيت على سابقاتها سنة بعد سنة حيث أدى ذلك إلى تعظيم النفقات الجارية وتقليص للنفقات الرأسمالية مما أصاب التشوه ببند الرواتب بعد استحداث عقود الاستخدام والوحدات المستقلة متبوعاً بتشوهات في العلاوات والبدلات والمكافآت في جسم الوحدات الحكومية مترافقاً ذلك مع ارتفاع نفقات الدفاع والأمن بعد أن عصفت في المنطقة البؤر المشتعلة كالقاعدة وشقيقاتها بالاضافة الى ارتفاع كلفة المديونية من حيث الأقساط او الفوائد المستحقة عليها وانتهاءً بفاتورة التقاعد التي اصبحت عبئاً حقيقياً على المالية العامة من حيث القيمة، ونظراً لتفاوت مفرداتها ما بين المتقاعدين حديثاً والمتقاعدين القدماء فانها اصبحت عنواناً لغياب العدالة بين ابناء الوظيفة العامة من المتقاعدين وتشابه الحال مع شاغلي الوظيفة العامة حالياً، مما احدث شرخا في علاقة هؤلاء مع دولتهم العتيدة.
ان هذا الاسراف في النفقات الجارية والاستجابة الى نصائح صندوق النقد الدولي والبرامج الموقعة معه من قبل الحكومات منذ سنة 1989 حتى 2019 الذي تجلي الضرائب والمديونية لتغطية هذه النفقات استناداً الى سياسات مالية منسجمة مع ما اتبعته الدول الغربية ( تاتشر 79 ، ريغان 81 ) بكف يد الحكومة في التدخل بالشأن الاقتصادي ومنح الدور كاملاً للقطاع الخاص من حيث الملكية العامة لوسائل الانتاج وخاصة المتعلقة بالنقل، الصحة، التعليم، مترافقاً ذلك مع او اللجوء الى الضرائب غير المباشرة ( جمارك، مبيعات ) بدلا من ضرائب الدخل في تحصلات حاجات الخزينة فقد تم اقرار قانون ضريبة المبيعات في عام 1994 تنفيذا لما ورد في برنامج التصحيح الاقتصادي للسنوات (1992-1994 )، وتخفيض الضرائب على الدخل بحجة تشجيع الاستثمار محلياً واستقطابه من مصادر خارجية، حيث تم فرض ضريبة مبيعات على مدخلات الانتاج الزراعي والصناعي وسلعهما المنتجة والخدمات المهنية.. الخ دون المساس بالخدمات المالية وعلى وجه الخصوص البنوك، التأمين حيث انعكست هذه التشريعات سياسات مالية مباشرة وعبئاً قاسياً على القطاعات الانتاجية على وجه الخصوص.
ثانيا : الاقتصاد الأردني
هذه السياسات المالية التي اتبعتها حكومات ما بعد تسعينيات القرن الماضي توجته تلك الحكومات بالتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة التي ازالت الحواجز الجمركية على السلع المستوردة على وجه الخصوص حيث أصبحت السلعة الاردنية (زراعة، صناعة ما بين كفيّ كماشة ضرائب المبيعات من جهة وسلع مستوردة باسعار اقل من جهة اخرى ادت سنة بعد سنة إلى تراجع الاستثمار في القطاعات الانتاجية من ناحية والى هروبها الى دول اقل كلفة من ناحية ثانية، مما ادى الى دخول الاقتصاد في انكماش كبير انعكسل لخلل هيكلي في الاقتصاد تمثل في تقليص حصة قطاع الزراعة والصناعة في الناتج المحلي الإجمالي ورفع حصة قطاع الخدمات، مما ادى الى فشل برنامج التصحيح الاقتصادي في تحقيق نسب النمو المستهدفة او تخفيض عجز الموازنة أو تقليص العجز الكبير في ميزان التجارة بسبب بطء نسبة النمو في الصادرات وارتفاع حجم الاستيراد مما انعكس ارتفاعاً بنسب البطالة التي تعتبر الزراعة والصناعة بيئتها الحاضنة بالاضافة الى فشل كل برامج التصحيح في وقف سباق الحكومات نحو اللجوء الى المديونية في تسديد التزاماتها المالية التي رفعت من فاتورة خدمة الديون اقساطاً وفوائد عكست نفسها في مزيد من الضرائب.
لقد استمرت الحكومات في نهجها رغم فشل كل البرامج التي وضعتها لتحسين مؤشرات النمو، التجارة الخارجية، الحساب الجاري، ميزان المدفوعات، المديونية، البطالة والفقر، بسبب عدم قدرتها على معالجة الاختلالات المزمنة في السياسات المالية اعلاه من جهة التي انعكست اختلالات في هيكل الاقتصاد الأردني من حيث عدم توازن مكونات الناتج المحلي الاجمالي (صناعة، زراعة، خدمات) من جهة اخرى.
ثالثا : معالجة الاختلالات
ان معالجة حقيقية لهذه الاختلالات يتطلب فريقاً سياسياً غير مؤمن بالنهج الذي سارت عليه الحكومات السابقة منذ منتصف التسعينات، فريقاً اتبع سياسات مالية فشلت في الموازنة ما بين النفقات العامة بشقيها الجاري والرأسمالي، والضرائب بشقيها ايضا المباشرة (دخل) وغير المباشرة (مبيعات وجمارك) وفشلت في استخدام المديونية بوظيفتيها الصحيحة والمتعلقة بدعم النفقات الرأسمالية، وعززت من استخدامها السالب المتعلق بتسديد عجز الموازنة، فبند الرواتب مثلاً مدنياً وعسكرياً، سواء في الوحدات الحكومية او المستقلة وشاملاً ذلك العلاوات او البدلات او المكافآت بحاجة الى معالجة، فخضوع كل المؤسسات العامة لنظام رواتب عامة موحد، بغض النظر عن تسمية المؤسسة مستقلة او غير مستقلة، بما في ذلك الشركات المملوكة للحكومة او التابعة لها بحيث لا تزيد رواتب الدرجة العليا على خمس اضعاف الدرجة السادسة مثلاً، مترافقاً مع تخفيض النفقات الدخيلة على الموازنة كالدعم النقدي، الصحة، الجامعات، المحروقات..الخ ونقل هذه البنود الى الوزارات التابعة لها مع تحسين حقيقي للنفقات الرأسمالية لمعالجة القصور في بنية النظام الصحي برمته والنظام التعليمي بالاضافة الى دعم قطاع النقل من اجل ايجاد بيئة جاذبة للاستثمار وملبية لحاجات المواطنيين الاردنين الذين اضطرهم تدني التعليم، الخدمات الصحية ورداءة وسائل النقل العام بسبب التراجع في الإنفاق على هذه القطاعات الثلاث في الهروب في التعليم والطبابة الى القطاع الخاص والى امتلاك مئات السيارات الخاصة بالنقل مما ساهم بشكل أو بآخر في تعميق هذه التشوهات التي جمدت بنود الموازنات العامة في العقود الثلاث الماضية.
اما الضرائب فإن معالجة الخلل في الهيكل الضريبي اصبح اكثر من ضروري باعتبار أن الحكومة السابقة والحالية وعدت في معالجته ولم تفي بوعدها، من حيث ان تغليب الضرائب غير المباشرة (مبيعات، جمارك) في تحصيلات الخزينة، على حساب الضرائب المباشرة ( دخل ) عمّق من الخلل في السياسات المالية والتي عكست نفسها على السياسات الاقتصادية اذ رفعت كلف الانتاج، حالت دون اعادة توزيع الثروة وعززت من فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء.
ان اقتصادنا بحاجة الى اعفاء شامل للسلع الشعبية الأساسية، اعفاء مدخلات القطاع الزراعي والصناعي من ضريبة المبيعات، فرض ضريبة مبيعات على السلع الراقية، الرفاهية، نخب اول، وبما ينسجم مع نص المادة ( 111 ) من الدستور حول تصاعدية النسبة بما يتفق مع صنف السلعة بحيث تضمن السياسة الضريبية المتبعة أن يدفع الأغنياء للخزينة اكثر مما يدفعه الفقراء ومتوسطي الدخل ,مترافقاً ذلك مع تخفيض لضريبة المبيعات على المشتقات النفطية وعن قطاع الاتصالات بحيث تراعي النسب الضريبية جودة السلعة وقيمة الفاتورة وبما يحقق مساهمة اكبر للخزينة من أصحاب الدخول المرتفعة وتخفيض حقيقي على أصحاب الدخول المتوسطة.
ان تعديل التشريعات المتعلقة بالخدمات المالية سواء كانت متعلقة بالبنوك او شركات التأمين او شركات الاقراض الأخرى بشكل عام بما في ذلك كل من يستوفي فوائد ومرابحات على عمليات التمويل او البيع يستوجب ان تكون تحت اشراف البنك المركزي وان تكون الفوائد والعمولات وفوائد التأخير وعمولات التأخير واية مبالغ تتقاضاها هذه المنشآت لا تزيد عن (3%) عن الفوائد على الودائع كمعيار حقيقي لكلفة عادلة لتمويل المشاريع والافراد من جهة ومحفزة لاصحاب الودائع للذهاب الى استثمار أموالهم في مشاريع انتاجية من جهة اخرى، لتحقيق عوائد أكثر من عوائد الودائع البنكية, كما أن تخفيض اشتراكات الشيخوخة بما يتناسب مع قدرة المشتركين بالضمان الاجتماعي على الدفع وكذلك قدرة المنشآت الخاضعة لقانون الضمان، يساعد كثيرا في تخفيف العبء عن الموظفين اللذين تأكلت دخولهم ويساعد ايضا في تخفيض كلفة السلع والخدمات المنتجة على حدٍ سواء.
ان مدخلنا للاصلاح يبدأ سياسياً، وان مشكلتنا الاقتصادية تكمن في تكلفة منتجاتنا السلعية والخدمية على حدٍ سواء، وبمعالجة هذين السببين نستطيع معالجة اختلالات المالية العامة (نفقات عامة، ضرائب ومديونية) وهيكل الاقتصاد (زراعه، صناعة وخدمات ).