(1)
بعد احتلال اسرائيل للضفة الغربية في حزيران 1967، والتي كانت جزءا من الأردن، أخذت منطقة الأغوار تنشط فيها مجموعات من الفدائيين. وكان الجيش العربي الأردني يقوم بتغطية العمليات التي كان ينفذها الفدائيون داخل الأراضي المحتلة. وخلال الفترة ما بين 1967 - 1970، حصلت عشرات الصدامات بين القوات المسلحة الأردنية وقوات الاحتلال الإسرائيلي على طول الجبهة، بما اصطلح على تسميته حرب الاستنزاف.
مهدت اسرائيل لعمليتها بعدد من التصريحات المهددة للأردن في حال استمرت الهجمات الفدائية، وكان واضحا لأجهزة الاستخبارات الأردنية أنّ ثمة زيادة في عدد وعدة القوات الإسرائيلية، وأنّ عملية كبيرة تنوي إسرائيل القيام بها. راهنت القيادة الإسرائيلية على عوامل اعتبرتها مشجعة، أبرزها انخفاض الروح المعنوية للعرب، وأنّ أيّ عمل عسكري سينجح بسهولة، وأنّ الجيش الأردني لم يكن قد تمكن بعد من تعويض ما خسره في حرب حزيران، خصوصا في مجال الطيران.
بدأ الرصد الاستخباراتي للتحركات الاسرائيلية منذ أن بدأت تتجمع على تخوم نهر الاردن، وتبين أنّ هدفها كبير وخطير، وفي صبيحة يوم الحادي والعشرين من آذار 1968 بدأت تلك القوات هجومها.
(2)
حشد الجيش الاسرائيلي قوات كبيرة، تكونت من لواء مدرع ولواء مظليين ولواء مشاة وأسراب من الطائرات المقاتلة والمروحيات وخمس كتائب. أمّا قوات الجيش العربي التي واجهت الهجوم، فكانت تتألف من الفرقة الأولى بقيادة العميد مشهور الجازي، والتي تضم ثلاثة ألوية مشاه، هي لواء القادسية بقيادة العقيد قاسم المعايطة، ولواء عالية بقيادة العقيد كاسب المجالي، ولواء حطين بقيادة العقيد بهجت المحيسن، إضافة إلى لواء مدرع بقيادة الشريف زيد بن شاكر، ومدفعية الفرقة بقيادة العقيد شفيق جميعان، واللواء المدرع (60).
كانت الأفكار الأولية توحي بصعوبة الصمود أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية المتقدمة ، ولكن الأخبار والبيانات العسكرية التي بدأت ترد من ميدان المعركة، كانت تتحدث عن الصمود الأسطوري للمقاتلين الفلسطينيين وللجيش العربي الأردني، وأنّ المعتدي لم يحقق أيّا من أهدافه، وأنّه هزم وتراجع، فكانت نقطة تحول كبيرة كان لها أثر معنوي كبير في مرحلة سادها اليأس والقنوط.
واستنادا إلى الوثائق التي تركها العدو في أرض المعركة، تبين أنّه رغم إعلانه عن أنّ هدف المعركة تدمير قواعد المقاومة الفلسطينية، إلا أنّ الهدف الحقيقي كان احتلال مرتفعات السلط المطلة على عمان، وتحويلها إلى جولان ثانية، وحزام أمني لها، مما سيفرض وقائع جديدة على الأرض، يمكن أن ترغم الأردن على قبول تسوية بالشروط الإسرائيلية، بعد تحطيم القوات الأردنية، وهو ما سيعمق أكثر زعزعة الروح المعنوية للمواطنين والجنود.
(3)
في الساعات الاولى للعدوان أصدرت القيادة العامة للجيش بيانا قالت فيه أنّه في تمام الخامسة والنصف من صباح اليوم قام العدو بشنّ هجوم واسع في منطقة نهر الاردن من ثلاثة أماكن، هي جسر داميا وجسر سويمة وجسر الملك حسين، وقد اشتبكت معه قواتنا بجميع الأسلحة، واشتركت طائراتها في العملية، وأنّه دمر للعدو أربع دبابات وأعداد من الآليات وما زالت المعركة قائمة.. وكان قد بدأ القصف المركز على مواقع الإنذار والحماية، ثم بدأ الهجوم الكبير على الجسور الثلاثة. يقول مشهور حديثة :" أنّه عند الخامسة فجرا أبلغني الركن المناوب أنّ العدو يحاول اجتياز جسر الملك حسين، فأعطيته تعليمات مباشرة بفتح النار من جميع أنواع الأسلحة على حشود العدو، لذلك كسب الجيش الاردني مفاجأة النار عند بدء الهجوم، ولو تأخر لأتاح للقوات المهاجمة الوصول إلى أهدافها بالنظر الى قصر المسافات التي تقود إلى أهداف هامة.
وتوالى صدور البيانات العسكرية عن استمرار القتال على طول الجبهة، وأنّ القتال يدور بالسلاح الأبيض في بلدة الكرامة، بعد أن قام العدو بعملية إنزال هناك، بهدف تخفيف الضغط على قواته التي عبرت شرقي النهر، إضافة إلى تدمير بلدة الكرامة، في وقت لم يتمكن من زج قوات جديدة عبر الجسور نظرا لاستهدافها من قبل سلاح المدفعية، وهذا يعني أنّ الخطط الدفاعية التي خاض من خلالها الجيش العربي هذه المواجهة كانت محكمة، وساهم في نجاحها الإسناد المدفعي الكثيف، إلى جانب صمود الجنود في المواقع الدفاعية.
كان الإنزال شرق بلدة الكرامة عملية محدودة حيث كان قسم من الفدائيين يعملون منها كقاعدة انطلاق لعملياتهم، وقد بقي الفدائيون المتواجدون يقاومون في البلدة حتى استشهدوا جميعا.
(4)
بعد الفشل الذي مني به العدو، وعدم قدرته على تحقيق أهدافه، وخسارته المادية والمعنوية التي لم يكن يتوقعها، صدرت الأوامر من قيادته بالانسحاب، بعد أن رفض الملك حسين الذي أشرف بنفسه على المعركة وقف إطلاق النار الذي طلبته اسرائيل لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، طالما أنّ هناك جنديا اسرائيليا واحدا على الأرض الأردنية. وقد استغرقت عملية الانسحاب تسع ساعات نظرا للصعوبة التي عاناها الإسرائيليون في التراجع .
وجاء في رسالة وجهها الملك حسين بعد المعركة إلى القوات المسلحة :” لقد مثلت معركة الكرامة بأبعادها المختلفة انعطافا هاما في حياتنا، ذلك أنّها هزت بعنف أسطورة القوات الاسرائيلية، كل ذلك بفضل إيمانكم وبفضل ما قمتم به من جهد وما حققتم من تنظيم، حيث أجدتم استخدام السلاح الذي وضع في أيديكم، وطبقتم الجديد من الأساليب والحديث من الخطط، وإنّني لعلى يقين بأنّ هذا البلد سيبقى منطلقا للتحرير ودرعا للصمود وموئلا للنضال والمناضلين، يحمى بسواعدهم ويذاد عنه بأرواحهم، وإلى النصر في يوم الكرامة الكبرى والله معكم"
(5)
كان للمعركة صدى واسع واعتبرت بعض الصحف الأمريكية أنّ المعركة "جعلت الملك حسين بطل العالم العربي". أما حاييم بارليف رئيس الأركان الاسرائيلي فقال في حديث له :" إنّ اسرائيل فقدت في هجومها الأخير على الأردن آليات عسكرية تعادل ثلاثة أضعاف ما فقدته في حرب حزيران، وأنّ عملية الكرامة كانت فريدة من نوعها، فقد كانت جميع العمليات التي قمنا بها تسفر عن نصر حاسم لقواتنا، ومن هنا فقد اعتاد شعبنا على رؤية قواته العسكرية، وهي تخرج منتصرة من كل معركة، أمّا معركة الكرامة فقد كانت فريدة من نوعها، بسبب كثرة الإصابات بين قواتنا والظواهر الأخرى التي أسفرت عنها المعركة مثل استيلاء القوات الأردنية على عدد من دباباتنا وآلياتنا".
وبعد يومين أخذت جموع المواطنين تتوافد على ساحة العبدلي، لمشاهدة الآليات الإسرائيلية التي غنمتها القوات المسلحة من دبابات وناقلات جند ومدافع.
لقد أثبتت معركة الكرامة أنّ سلاح الإيمان وإرادة الصمود والإصرار على النصر أقوى من كل الأسلحة المتطورة، حيث تحقق فيها الانتصار العربي الأول على العدو، وتجسدت فيها أقدس معاني الكفاح العربي المشترك، وقدمت قناعة ودليلا للعرب أنّ النصر ممكن، وأنّه لن يكون إلا بالشباب، فقد كان معدل أعمار شهدائنا الستة والثمانين 26 سنة.
ستبقى هذه المعركة خالدة في أذهان الأردنيين ، ومصدر عز وفخر لهم ولأمتهم، ورصيد من البطولات والتضحيات، يدفعنا دائما لصيانة وطننا والذود عنه، وتخليصه من كل مظاهر الضعف والفساد وعدم الشعور بالمسؤولية التي بانت مؤشراتها في أداء مؤسساتنا الوطنية.