الضغوط التي يتعرض لها الاقتصاد , معروفة في أسبابها ومرصودة في تداعياتها لكن الخلاف يكمن في أساليب مواجهتها وإدارتها .
في مواجهة التحديات الاقتصادية هناك مدارس متعددة , بعضها ينادي بزيادة توغل القطاع العام في الاقتصاد إدارة وإستثمارا , وبعضها يقول أن على الحكومة المضي قدما في تحرير الاقتصاد بزيادة المساحة التي يعمل فيها القطاع الخاص , وهناك مدرسة بين وبين , أي أنها تريد أن تمسك العصا من النصف فهي تريد للقطاع الخاص أن يكون لاعبا لكن بقيود حكومية تتيح التدخل في السوق حتى لو كان ذلك بالعودة الى الدعم وسياسات التسعير .
توغل الحكومة في الاقتصاد له محاذير كثيرة , ولعل من المفيد التذكير هنا بالتجارب السابقة , التي أفرزت تشوهات إدارية ومالية , ليس أقلها جعل الشركات التي كانت تحت إدارة الحكومة حاضنة لحل مشاكل البطالة والاسترضاءات على حساب الانتاج والادارة الكفؤة .
تحرير الاقتصاد كذلك أفرز بدوره تشوهات عدة , منها الانفلات عندما يغيب التطبيق الفعال للقوانين وعندما تسمح المساحة الفارغة للقطاع الخاص باعتبار تحقيق الربح فقط هدفا رئيسيا ووحيدا يتخلى فيه عن مسؤوليته الاجتماعية , لكن مثل هذه التشوهات التي تعدل نفسها مع تعمق التجربة لا يجب أن تكون مبررا للعودة الى التأميم كحل , بل يجب أن تكون مدعاة لاستكمال حلقة القوانين الناظمة للعملية الاقتصادية وتطبيقها بفعالية لضبط إيقاع السوق , وفي نهاية المطاف فإن السوق الحر تصحح ذاتها باليات تحميها .
ما تتحدث عنه مدرسة بين وبين هو الطريق الثالث بعينه , وهو نتاج لأزمة المال والاقتصاد العالمية وتداعياتها فالأزمة لم تدفع فقط الى مراجعة كل السياسات الاقتصادية , التي حكمت مسار الاقتصاد العالمي على مدى قرن , بل دفعت الى بحث جاد عن طريق ثالث , سبق وأن طرح لكن الضوء المسلط عليه كان خافتا , فلم ينل حظه من التركيز .
يخّطئ المحللون اقتصاد السوق , ويعلقون على شماعته , أسباب وتداعيات
الأزمة على المستوى العالمي ويلومونه على المستوى المحلي في عدم تحقق معادلة التوزيع العادل لمكتسبات التنمية , ويدللون في ذلك على فشل سياسات تحرير الاقتصاد وعجزه عن اجتراح حلول للأزمة ,التي أظهرت عيوبا لا تحصى في جسد نظام اقتصاد السوق , الذي بدا في ذات الوقت نظاما هرما يحتاج الى تجديد, لكنهم بذلك أغفلوا أن الخلل لم يصب النظام المالي أو اقتصاد السوق انما كان في المبالغة في تطبيق
آلياته , فبدا أن اقتصاد السوق عاجزا عن تصويب اختلالاته.
الطريق الثالث ببساطة هو إقتصاد السوق , لكن الوجه الانساني هو الذي يتقدم , وهو الذراع الذي ما تزال تتحكم به الحكومات , بينما إخترع القطاع الخاص مؤخرا ذراعا جديدة هي « المسؤولية المجتمعية « التي يفترض أن تسد فراغ تخلي الحكومات عن هذا الدور , بينما دفعتها الأزمة الى التشبث فيه .
صحيح أن الحكومة مطالبة ببناء موازنة قادرة على مواجهة تباطؤ الاقتصاد , لكن في ذات الوقت يتعين عليها التركيز على بيئة حفز الاقتصاد أكثر من مجرد ضخ النفقات وعلى صانع السياسة المالية أن يكون قادرا على استخدام أدوات عديدة للتدخل الحميد في الأسواق وتصحيح مسارها.
من أهم نتائج الأزمة المالية العالمية هي العودة الى مفهوم « اقتصاد السوق الاجتماعي « أو الطريق الثالث وتعزيز الطبقة الوسطى, وهما لم يغيبا عن المشهد الاقتصادي في الأردن, والأمثلة على ذلك كثيرة.
qadmaniisam@yahoo.com
الراي