قال له صاحبه -وقد فرغا من صلاة المغرب ويَسْكن حذاءه-: اصحبني إليك نحتسي فنجانًا من القهوة، نخرج بها من زحمة العمل وما يتَّصل به من أعباءٍ تُطاردنا؛ فإنَّ الحياة فيها مُنغّصات، ولا تخلو من مُكدّرات.
وإذْ جلس جارُه -وهو مختصّ بالصحَّة النفسيَّة، ويعيشُ عُزلة تفرض عليه طريقةً في التّفكير، يرى فيها نفسه مقدَّمًا، وهو لا يملك زمام اللغة، ولا بناء جملةٍ مفيدة- راح يعبث على عادته بالجوَّال (الخلوي)، والوقت قصير لا يحتمل عبثًا، فإذا ما نهرتَه وصددتَه، أشعرَك أنَّه معك ويحاكيك، لكنَّها لحظةٌ أخلُص فيها من رسائل سريعة! فإذا تركته واللحظة، بقيتَ وحدَك خاليًا، وهو يُفيض نُصحًا لعوالم افتراضيَّة، يبدو أنَّه -بحكم تَخصُّصه- لا فَكاك له -في هذا الزَّمن المَسْكون بالأمراض النفسيَّة على زَعْمه- عن التَّواصل معها، والخوضِ في لُجَجها.
ضجر المُضيف، وغابَ الضَّيف، فرأى المَزور أنْ يُخرج الزّائر من إساره الذي ينسى فيه نفسه، فكيف لا ينسى من حوله؟!
سأله سؤالًا له وثيق صلةٍ بما هو مشغول به، وليته ما سأل!
ما الفرق بين "العُصاب" و"الذُّهان"؟
اعتدل في جلسته، ونظر إليه نظرة ضاقت بها عيونه، تَفحَّص بها شخصيَّته، وأطال النّظر وهو يُحدّق فيه ويعاينه، كأنَّه مسجًى على سرير في مستشفى الأمراض النفسية، فقال له- ومن عادته أن يُهوّل الأمور، وإذا كان ثمَّة بارقةُ أملٍ لحياةٍ، يكاد يمنعها- ما بك؟ هل من شيء؟
قال: وهل تظنُّ أنَّنا بمعزل عن هذه الأمراض التي غزتنا في منازلنا؟ وهل ترى نفسك تخلو من "عُصاب"؟
قال: و"ذُهان"؟
قال: لا.
قال: ما الفرق بينهما .. فإنَّك تقلقني، وتحاول أنْ تخرجني من سكينتي التي لا أشعر فيها بشيءٍ مما تقول؟!
راح يفرّق بين "العُصاب" و"الذُّهان"، ولم تُسعفه اللغة في التَّقريب، والمسكينُ يتابعه بضعفَيْ حواسّه حتَّى يلتقط شيئًا ممّا يقول، وقد بدا له وقد شطَّ بعيدًا في الشّرح، أنَّ "الذُّهان" عَرَضٌ لأمراضٍ نفسيَّة وليس مرضًا؛ ذلك أنَّ المصابَ به يفقد اتِّصاله بالواقع، ولا يخلو من أوهامٍ وهَلْوسة. أما "العُصاب"، فأقربُ إلى القلق والاكتئاب وما يصاحبهما من تعاسة وحُزن، لا تتوافق وظروفَ المُصاب الخاصَّة به، مع اتصاله بالواقع لا ينفصل عنه.
غضبَ، واستنفر، وجَمْجم: "قَهِوْتك مَشروبة"!