اثر تقنية الاتصال عن بعد على ضمانات المحاكمة العادلة
د. عبدالله ماجد العكايلة
17-03-2021 10:14 AM
مما لا شك فيه أن فكرة التقاضي عن بعد تمثل ولادةً جديدةً للإجراءات القانونية وخصوصاً الاجراءات الجزائية وذلك على أمل أن هذا النوع من التقاضي يواكب التطورات والمستجدات التي تشهدها المجتمعات الانسانية ويتفاعل معها بإيجابية فبالرغم من أن هذا النوع من التقنية الحديثة يهدف كما يقول البعض ألى تطوير الخدمات العدلية ، بدءا بسرعة انجاز المعاملات وتقليل مدة مواعيد جلسات المحاكمة وتقليل ملموس في الأعباء المادية على أطراف الدعوى ، والولوج لمفهوم المحكمة الإلكترونية ، ووصولاً لتحقيق مبدأ البت في الدعاوى في أجل معقول ، إلا أن سلبياتها تطغى على هذه الايجابيات وخاصةً ما يتعلق منها بضمانات المحاكمة العادلة للمتهم ، فمبدأ افتراض قرينة البراءة بحق المتهم وعلانية وسرية الجلسات القضائية وضبط المواد الجرمية وحضور المتهم أمام قاضيه الطبيعي وجهاً لوجه ، وكيفية الحوار والمناقشة التي تجري بين المتهم وشهود النيابة العامة وبالمجمل بين كافة أطراف الخصومة القضائية ، كلها تشكل ضمانات من شأن هذا النوع من التقاضي أن يخرقها خاصةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن النص التشريعي الذي جاء به المشرع الأردني قد ورد على سبيل الاحتياط .
وبالتالي يكون المشرع الأردني قد وضع الكرة في مرمى السلطة القضائية وعلى الأخص "المحكمة" لكونها صاحبة القول الفصل في الدعوى ، وعليه يعتبر القضاة هم المحور الأساسي لضمان سير اجراءات التقاضي باستخدام تقنية الاتصال عن بعد ولذلك فإنه يتوجب عليهم الاهتمام بسير العملية القضائية والسعي إلى إيصال الحق إلى طالبيه في أسرع وقت وبأقل التكاليف ، ومن ثم فإنهم الأحرص من غيرهم على تقليل أمد التقاضي وسرعة البت والفصل في الدعاوى ؛ ولقد أضحى من الضروري وضع قواعد جديدة تكفل سير الدعاوي بسهولة ويسر وحمايتها من التأجيل والمماطلة ، وكل ما يعرقل سيرها.
وترتيباً على ما تقدم جاء المشرع الاردني ليجيز استخدام تقنية الاتصال عن بعد في الاجراءات القضائية وذلك بموجب المادة 158 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الاردني رقم 9 لسنة 1961 وفقاً لآخر تعديلاته في القانون رقم 32 لسنة 2017 ، وبموجب هذه المادة استحدث المشرع نظام أسماه ب(( نظام استخدام وسائل التقنية الحديثة في الإجراءات الجزائية رقم 96 لسنة 2018 المنشور على الصفحة 5606 من عدد الجريدة الرسمية رقم 5529 بتاريخ 2/9/2018 صادر بموجب الفقرة 2 من المادة 158 من قانون اصول المحاكمات الجزائية الاردني وتعديلاته رقم 9 لسنة 1961. واللذان يجيزان للجهات القضائية استعمال وسائل الاتصال عن بعد ، ومن بينها منح هذه الجهات صلاحية الاستماع للمتهم أو للضحية أو الشاهد أو الخبير أو المطالب بالحق الشخصي أو مواجهته مع الغير عبر تقنية الاتصال عن بعد، وقد جاء النص على ذلك وفقاً للماد 3/ب من النظام المذكور حيث نصت على انه (( لغايات تنفيذ أحكام هذا النظام تستخدم وسائل التقنية الحديثة مع المشتكي والمشتكى عليه والمجني عليه والشاهد والمحامي والخبير والمترجم والمدعي بالحق الشخصي والمسؤول بالمال)).
وبالرغم من كثرة المؤيدين لفكرة استخدام التقنية الحديثة في الاجراءات القضائية إلا اننا نطرح التساؤلات الاتية:
1- ما مدى نجاح المشرع الاردني في وضع الاسس والضوابط التي تحكم ضمان سير عملية المحاكمة العادلة من خلال استخدام تقنية الاتصال عن بعد ؟ وما هي الضمانات لذلك ؟
2- ما مدى شرعية اجراءات التقاضي الالكترونية ومدى تأثيرها على ضمانات المحاكمة العادلة للمتهم سواءً في مرحلة التحقيق الابتدائي او مرحلة المحاكمة؟
3- لماذا لم يلجأ المشرع الاردني الى النص على مبدأ التدرج في المحاكمات الالكترونية بدءاً من الجنح البسيطة وكذلك القضايا المدنية ليتأكد من مدى فعاليتها ونجاحها، حيث جاء نصه عاماً على جوازية استخدام التقنية الحديثة في كافة الجرائم الجنحية منها والجنائية ودعاوي الحق الشخصي ؟
4- هل تتولد لدى المحكمة قناعة تامة بإجراءات التقاضي المستخدمة عبر تقنية الاتصال عن بعد وبما يكفل الموازنة بين مصلحة المتهم في حفظ حقوقه وكفالة ضماناته وبين مصلحة الدولة في حقها العام؟
5- هل يحق للمتهم او محامية ان يبدي رغبته بعدم استخدام تقنية الاتصال عن بعد في اجراءات التقاضي ؟ وما هو الاثر القانوني المترتب على رفض او قبول هذه الرغبة ؟ وما هي المببرات التي من الممكن ان تعول عليها الجهة القضائية لكي ترفض طلب المتهم او محاميه في الحضور الشخصي امامهم؟
لعل الإجابة على مثل هذه التساؤلات وغيرها تقتضي منا القول أن نتكلم عن حقيقة تمتزج ما بين الواقع والقانون لا بل ما بين المنطق والقانون وهذه الحقيقة تتمثل بقولنا أن فوائد ومزايا تقنية الاتصال عن بعد في الاجراءات القضائية سواءً في مرحلة التحقيق أو المحاكمة يجب أن لا تكون على حساب هدر وخرق ضمانات المحاكمة العادلة للمتهم ، فمغادرة النظام الورقي وسرعة البت في القضية واستلام ملفات القضية الكترونياً والتقليل من النفقات التي تتكبدها الدولة في حالة نقل النزيل أو المحكوم عليه من وإلى الجهة القضائية هو أمر مرهون بالموازنة بين حق الدولة في العقاب وحق الفرد أو بالأحرى المتهم، فالسلطة القضائية ملزمة قانوناً لا بل ودستوراً بأن تكفل للمتهم كافة الحقوق والضمانات الخاصة به.
فإذا كان الأمر كذلك فإننا نشد على يد المشرع ونعلن له تهانينا ونبارك له على مثل هذه الخطوة الرائدة ، أما إذا كانت هذه الخطوة من شأنها أن تعيق سير الاجراءات القضائية أو من الممكن أن تهدر أياً من ضمانات المتهم أو من شأنها أن تؤدي إلى خلخلة ودربكةً بحيث تحيد عن مبدأ الحقيقة القانونية، فلا نجد حرجاً من طرحها أرضاً معلنين الرجوع إلى النظام القضائي التقليدي .
ولست من المؤيدين ولا من المتفائلين بنجاح هذه التقنية لضعف الامكانيات التقنية وقلة الموارد المالية لها ، كما أن التقاضي الإلكتروني من وجهة نظري لا يختلف عن التعليم الإلكتروني في المدارس والجامعات وهي تجربةً مريرة نعيشها ونتعايش معها والكل يؤمن بعدم انتاجيتها إذا ما قورنت بمبدأ المواجهة الحقيقية فحضور الطالب إلى الغرفة الصفية وكذلك حضور أطراف الخصومة وعلى رأسهم المتهم إلى الغرفة القضائية يشكلان عنواناً للنجاح والتفوق وبما يحفظ حقوقهم وضماناتهم القانونية والدستورية.
وإذا ما أردنا استعراض بعضاً من ضمانات المتهم فإننا نبدأ بأولها وهي مبدأ علنية المحاكمة والتي تعني حق كل إنسان أن يحضر المحاكمة، دون شرط أو قيد أو عائق سوى ما يخل بالنظام، حتى تتاح له فرصة مشاهدة إجراءات المحاكمة، وتمكن جمهور الناس من الاطلاع على الإجراءات وما يدور فيها من مناقشات، وما يدلي فيها من أقوال ومرافعات. وتم التأكيد على هذا المبدأ في الدستور المادة 101 " وكذلك في قانون اصول المحاكمات الجزائية المادتين (171 و213/2 ).
ووفقاً لنظام استخدام وسائل التقنية الحديثة الأردني في المادة 5 منه أيضاً أشار المشرع إلى ضمانة علانية المحاكمة بموجب المادة الخامسة منه حيث نصت على أن (( تراعى عند استخدام وسائل التقنية الحديثة أحكام السرية والعلانية والحضور والمناقشة ...الخ)).
ومن وجهة نظرنا نرى بأن علانية المحاكمة وفقاً لتقنية الاتصال عن بعد لا تحقق الفائدة المرجوة والانتاجية المطلوبة في اجراءات التقاضي كما هو الحال عند ممارستها بالشكل التقليدي وجاهةً أمام القضاة ، لأسباب منها أن البعض من المحامين قد يترافعون في قضاياهم من مكاتبهم الخاصة أو من بعض الأماكن الخاصة ،كما أن عدم انتاجية علانية المحاكمة بالشكل الإلكتروني مرده ضعف القناعة الشخصية لدى العامة في التقاضي الالكتروني ، لكن من الممكن ان تنتج علانية المحاكمة الالكترونية اثرها الايجابي في حال ما إذا كانت المحاكمة عبر قنوات تلفزيونية تخصص لذلك بحيث تنقل كافة اجراءات التقاضي أو عبر رابط الكتروني يتم نشره من خلال موقع وزارة العدل وهذا الرابط لا يدخل اليه الا المهتمين كما هو الحال بالنسبة لرابط موقع منصة "درسك" المنبثق من وزارة التربية والتعليم ، وتتمثل الضمانة الثانية ب حق المتهم في سرية المحاكمة إذا وجدت دواعي لها رغم أن القانون لم ينص على السرية
وقد جاء النص على السرية أيضاً في المادة الخامسة من نظام استخدام التقنية الحديثة بقولها (( تراعى عند استخدام وسائل التقنية الحديثة أحكام السرية...الخ)). ولكن لنقف قليلاً عند السرية ومدى شرعيتها لحظة استخدام تقنية الاتصالات بشأنها حيث نرى أن السرية لا تحقق أي فائدة للمتهم بل أنها قد تشكل خرقاً لهذه الضمانة ، وحجتنا في ذلك تكمن في عدة أساب الاول يرجع إلى أنه لا يمكن ربط القاضي بمراكز الاصلاح والتأهيل إلا من خلال خبير أو مهندس عالماً بأمور التقنية فمجرد وجود هذا الشخص يؤدي إلى فقدان مبدأ السرية خاصةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه قد تحدث بعض العوائق الفنية في الشبكة التقنية أثناء سماع أقوال المتهم أو حتى الشهود كعدم سماع الصوت أو رؤية الصورة بشكل واضح أو ضعف او خلل ، الأمر الذي يتطلب حضور مثل هذا الشخص لمجريات الدعوى وهذا في حد ذاته كاف لخرق مبدأ السرية ، والضمانة الثالثة تتمثل ب حق المتهم في مناقشة شهود الاثبات أو ما يسمى شهود النيابة العامة إذا لم يكن له محامياً.
وقد جاء النص على هذا الحق في المادة 173/2 من قانون اصول المحاكمات الجزائية بقولها ونصت عليه أيضاً المادة الخامسة من نظام استخدام التقنية الحديثة الأردني ومما جاء فيها . وبالرغم من تأكيد المشرع على هذه الضمانة سواء كان التقاضي تقليدياً او الكترونياً __ وتحت عنوان أن الشهادة نوع من أنواع الإثبات فإننا نتساءل هل التقنيات الحديثة مهيئة أو على الأقل كافية لإجراء المناقشة بين المتهم وغيره من شهود الإثبات ، ولنفرض جدلاً أن مناقشة شهود النيابة استغرقت وقتاً طويلاً فهل تحقق الانتاجية المطلوبة كما لو تم اجراءها امام القاضي مباشرةً في المحكمة .
باعتقادي المتواضع أن مناقشة الشهود عبر التقنية الحديثة من شأنها المساس بضمانة المتهم مما تؤثر عليه سلباً في تكوين القناعة الوجدانية للقاضي ، وفيما يتعلق بضمانة حق المتهم في الاطلاع على جميع المواد الجرمية المضبوطة
وهذا الأمر منصوص عليه في قانون أصول المحاكمات الجزائية وكذلك جاء النص عليه في نظام استخدام التقنية الحديثة بشكل عام في المادة 6/ب حيث نصت على أن . ومما يستشف من النص المذكور أن احقية المتهم في الاطلاع على المواد الجرمية المضبوطة تتحقق من خلال المواجهة.
وبالرغم من ذلك فإننا نرى أن التقاضي الإلكتروني لا يمكن أن يجدي أثره بشكل صحيح إلا من خلال حضوره شخصياً أمام المدعي العام أو القاضي داخل أروقة المحكمة ، لأن مشاهدتها عبر تقنية الاتصال عن بعد من شأنها أن تؤدي إلى عدم وضوح رؤية المتهم للمواد الجرمية على حقيقتها خاصةً إذا ما فرضنا جدلاً إذا كان المتهم من ضعاف البصر، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم تيقنه فيما إذا كانت هذه المواد المضبوطة بعضها أو كلها عائدة له من عدمه.
لهذا أرى من وجهة نظري أفضلية تحقيق هذه الضمانة بحضور المتهم بالشكل التقليدي أمام المدعي العام، وقد يجيب البعض إلى أن نظام استخدام التقنية الحديثة الأردني أجاز للمتهم أن يطلب حضوره شخصياً أمام المحكمة لكن الإجابة على ذلك تكمن في أن هذا الطلب موقوف على اجازة المدعي العام له من عدمه طبقاً لنص المادة 7/أ/1 والتي نصت على أنه (( للمشتكى عليه الذي تقرر التحقيق معه باستخدام وسائل التقنية الحديثة أن يطلب من المدعي العام أثناء التحقيق معه الحضور شخصياً، وللمدعي العام بناء على أسباب مبررة قبول هذا الطلب أو رفضه ))، أما الضمانة الخامسة والتي تتمثل ب حق المتهم في الحضور أمام المحكمة أو الادعاء العام فقد نصت عليها المادة 64/1 اصول جزائية بقولها (( للمشتكى عليه والمسؤول بالمال والمدعي الشخصي ووكلائهم الحق في حضور جميع اجراءات التحقيق ...الخ)). وأيضاً تم التأكيد على هذا الحق للمتهم بموجب المادة 7/1،2،3 من نظام استخدام التقنية الحديثة حيث نصت على أنه ((. للمشتكى عليه الذي تقرر التحقيق معه .... الحضور شخصياً، وللمدعي العام بناءً على أسباب مبررة قبول هذا الطلب أو رفضه)).
والملاحظ في هذا الشأن أن هذه الضمانة الهامة للمتهم قد جاء النص عليها في النظام الخاص باستخدام التقنية الحديثة على نحو تجيز للمشتكى أن يطلب حضوره أمام المدعي العام أو المحكمة لكن هذا الطلب يبقى موقوف على اجازة الجهة القضائية له أو رفضه ، لا بل أن النظام المذكور جعل قرار المحكمة بالموافقة أو الرفض قراراً قطعياً والسؤال الذي يفرض نفسه هنا في حال ما إذا رفضت المحكمة طلب المتهم بالحضور أمامها ما هي الأسس التي على ضوءها يحق للمحكمة رفض هذا الطلب. كما أن عدم موافقة المدعي العام على طلب حضور المتهم شخصياً أمامه ألا يعتبر ذلك اهداراً لاحد أهم ضماناته . لذا كان حرياً بالمشرع أن يحسم هذا الأمر لصالح المتهم لأن الحضور يعتبر من أهم الضمانات التي كفلتها القوانين والمواثيق الدولية للمتهم .
وقد كانت قضية الزرقاء "صالح" الشهيرة أكبر دليل على أن المحاكمات الوجاهية الحقيقية أفضل من المحاكمات الإلكترونية ، وهذا دليل أيضاً على أن محكمة الجنايات الكبرى هي التي تختص بشكل فردي بالمحاكمات الإلكترونية . وفيما يتعلق حق المتهم في مقابلة محامية، فقد نص قانون أصول المحاكمات الجزائية على هذه الضمانة في المادة 208 منها وكذلك في نظام استخدام التقنية الحديثة بموجب المادة الخامسة منه ومما جاء فيها ((تراعى عند استخدام وسائل التقنية الحديثة .... ما تعلق منها بحق الدفاع ...الخ)).
والملاحظ في هذا الشأن أن المتهم يستطيع مقابلة محاميه بواسطة تقنية الاتصال عن بعد ، ويدلي ما يشاء من أقوال له ، لكن قد يرغب المتهم في ذكر بيانات أو معلومات معينة بطريقة لا يستطيع ايصالها إلا بالمواجهه الحقيقية ، وهذا مما يتنافى مع عدم احترام هذه الضمانة ، أضف إلى ذلك إلى مقابلة المتهم لوكيله عبر المنصة الإلكترونية من شأنه أن يخرق مبدأ السرية والحرية في ابداء اقواله ويبقى السؤال مطروحا ما هي الضمانات التي تكفل سرية المعلومات والبيانات التي يدلي بها المتهم لمحاميه عبر المنصة الإلكترونية ، وعلى هذا فإنني أرى أن الحفاظ على هذه الضمانة لا يمكن أن تأتي اكلها إلا من خلال المقابلة الحقيقية ، أما بالنسبة لضمانة حق المتهم الأبكم او الأصم في أن يقوم رئيس المحكمة بتعيين من اعتاد مخاطبة الصم والبكم للترجمة. فقد تم النص عليها في المادة 230 اصول جزائية بقولها (( إذا كان المتهم أو الشاهد أبكم أصم أو ذا إعاقة أخرى ولا يعرف الكتابة ...الخ .)) وقد تم التأكيد على هذه الضمانة في النظام الخاص باستخدام التقنية الحديثة بموجب المادة 3/ب
أرى في هذا الشأن أن يتم حضور المتهم والترجمان أمام الجهات القضائية فقد يجد القاضي القاضي أو المدعي صعوبة في فهم الحركات أو الإشارات عبر تقنية الاتصال عن بعد الأمر الذي يؤدي إلى فتح الباب فتح الباب على مصراعيه للتفسير الخاطئ لهذه الاشارات وحفاضاً على هذه الضمانة ولتلافي أي تأويل او تفسير أي تأويل قضائي أو تفسير خاطئ ارى بلزومية حضور المتهم وترجمانه أمام الجهة القضائية .
• استوقفتني المادة 158/د حيث قالت (( لغايات البند (ج) من هذه الفقرة ، يکون استخدام التقنية الحديثة وجوبيا في حالة سماع أقوال المجني عليه في جرائم الاعتداء على العرض إلا إذا تعذر ذلك وجوازياً في جميع الحالات الأخرى. تعليقنا هنا)).
لا أعرف لماذا جعل المشرع من استخدام التقنية الحديثة وجوبياً في جرائم الاعتداء على العرض وجوازياً في الجرائم الأخرى ، فهل هذا القول يكفل ضمان السرية في مثل هذه الجرائم خاصةً إذا ما اخذنا بعين الاعتبار أن القاضي خبير قانوني وليس خبير تقني وهذا يعني أن الوسيط الإلكتروني وهو مهندس التقنية قد يستلزم وجوده في كافة اجراءات التقاضي إذا ما اصيبت هذه التقنية بضعف أو عائق في الصوت والصورة وهنا تهدر وتسحق ضمانة السرية ولا تكون إلا وبالاً على المتهم ، وبالتالي أرى أنه في هذه القضايا بالذات وهي قضايا الاعتداء على العرض أن المحاكمة التقليدية أفضل بكثير من المحاكمة الإلكترونية ) ، ومن خلال ما تقدم فإننا نصل الى مجموعة من النتائج نجملها على النحو الآتي:
1- التقاضي عن بعد كالتعليم عن بعد إذا ما قارنا المعلم في المدرسة مع القاضي في المحكمة ، فإنها تكون ضعيفة بحيث يكون الضحية في العملية التعليمية هو الطالب في حين يكون الضحية في العملية القضائية هو "المتهم .
2- التقاضي عن بعد يؤدي إلى فقدان مبدأ المواجهة الحقيقية بين الخصوم بحيث يمنع من لقاء الخصم بقاضية وبالتالي فإن مبدأ الحضور الوجاهي باعتقادي يعتبر من بين ضمانات المتهم وكان الأولى على المشرع أن يجعل رهن التقاضي الإلكتروني راجعاً إلى موافقة المتهم من عدمه وليس للجهة القضائية كما نص عليه النظام وقانون الأصول الجزائية .
3- التقاضي عن بعد يجدى ثماره في حالات منها سماع شهاد الشاهد الذي لا يستطيع الحضور الى المحكمة لأسباب قاهرة تمنعه من ذلك وكذلك الحال بالنسبة للمتهم .
4- كان الأولى على المشرع أن يفتح المجال للأشخاص خارج الوطن الهاربين من حبل العدالة سواءً المحكومين منهم أو الذين حركت بشأنهم الدعوى الجزائية لإتاحة الفرصة لهم للدفاع عن أنفسهم وبما لا يخل بحقوق الدفاع وكفالة ضماناتهم . وهذا الأمر يحتاج إلى نص تشريعي كنا نتمنى على المشرع ادراجه في صلب النظام.
5- حسب نص المادة 158 ونصوص مواد النظام الخاص باستخدام التقنية الحديثة يعتبر التقاضي عن بعد إجراءاً احتياطياً لا اساسياً حيث جاءت كافة النصوص لتجيز للجهات القضائية استخدامه من عدمه .
6- على فرض لجأ القاضي إلى تفضيل استخدام التقنية عن بعد فعليه أن يتأكد من أن اجراءات المحاكمة مطابقة للشكل والموضوع سواءً من الناحية الفنية أو القانونية وعليه أيضاً أن يطلب إعادة المحاكمة وجاهياً بحضور كافة الأطراف أن تبادر إلى ذهنه شك بعدم صحة بعض الاجراءات . أو تخلل اجراءاتها انقطاع متكرر.
7- كان الأولى على المشرع أن يستثني من عداد التقاضي عن بعد الجرائم الجنائية التي هي من نوع الجناية بحيث يكون الحضور اجباري لكافة أطراف الدعوى وما يتعلق بها لا أن يطلق العنان في كافة الجرائم لأن هذه الجرائم على درجة كبيرة من الخطورة الاجرامية خاصةً تلك المعاقب عليها بعقوبات الاعدام والاشغال الشاقة بنوعيها المؤبدة والمؤقتة. أو على الأقل أن يذكر أنواع الجرائم التي تكون محلاً للتقاضي الإلكتروني بحيث تكون من الجرائم البسيطة لنرى جديتها وانتاجيتها وهل تغني عن المحاكمة التقليدية، ما دام أن هذه التقنية جديدة لا زال الحبل السري غير مقطوعاً عنها.
8- إن كان ولا بد من الأخذ بفكرة التقاضي عن بعد فيجب حصرها بداية في الجرائم البسيطة لنرى مدى انتاجية وفعالية الاجراءات القضائية من عدمها.
9- اخيراً لا مانع من استخدام فكرة التقاضي عن بعد في المرحلة التي تسبق بداية الاجراءات القضائية والتي تتمثل في تسجيل الدعوى ودفع الرسوم والمصاريف القضائية والتبليغات القضائية واخلاء السبيل، مع التأكيد بما لا يمنع من اللجوء الى تطبيق هذه الفكرة بدايةً في صغرى الجرائم ذات العقوبة البسيطة وعلى رأسها جرائم الايذاء غير المقصودة.
استاذ القانون الجزائي المشارك ورئيس قسم القانون كلية الحقوق – جامعة عجلون الوطنية