إنّ ظهور الحياة هو السبب الكامن الذي يدفعنا للاستمرار، والدوران في مناطق تركُّز العَيْش عجلةٌ وقودها التعاقب، وكما أَنَّ السياسات التي ترتكز على ظهرها أعمدة الحياة قابلة للتدهور في أَيِّ لحظةٍ، هناك فلسفةُ تضادٍ مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بماهيَّة الوجود، فالوجود الذي يَنُّم عن انبثاق علامات حيويّة في إيماءات مُفرَدةِ الحياة، سيكون لهُ طباقًا لا محال، وهذا ما يُسقِط فكرة العدم في أدمغة الأحياء، فيدركونَ الموت ويخشونهُ، وهذا ما يجعلهم في حلقة تفتيش دائمة عن أعراض الموت وتعقب آثاره، أو ربما تشخيص عمليةّ الإصابةُ فيه، ومن هنا يتوجب على البشر الذين يتمتعون بخاصية الحياة الحقيقيّة أو الموت المجازيّ بأَنْ يسارعوا في فهْم العلاقات الديناميكيّة في العقل الباطنيّ، فهمًا يتناسب طرديًا مع قيمة الحياة التي نريد، وبسقف مضبوط مِنْ التوقعات، فنحن لا نعيش في زمن الأساطير، والحياة الخارقة، نحن في مكان صغير مِنْ العالم اللامتناهي الذي نحتاج فيه إلى جرعات متتالية مِنْ الأمل؛ حتى لا يبكي سقف ظنونا أرواحنا الصائمة عن الصبر؛ ولنتغلب أيضًا على حياة الذل والقهر والعبوديّة، ولكي لا نفقد الرغبة الشعوريّة التي تتنامى داخلنا والمتمثلة في الأمل، فهو البلسم الذي يداوي قلوبنا مِنْ آثار الحروق العالقة بها، والمشوِهة للجمال المنصرخ مِنْ رحم المعاناة، وللأماني التي تشرئب مِنْ عنقٍ ضيِّقٍ مظلم يقبضُ بيديهِ الشرستينِ على روح الانتظار، ولكي لا نفقد الأمل بالحصول على حياةٍ كريمةٍ في بلدٍ خالي مِنْ أصحاب الغرائز الساديّة، المُتلذِذون بشهوةٍ حيوانيةٍ قذرةٍ في تعذيبنا، المتغلغلون كشراذمٍ حقيرةٍ في مكنوناتِ عقولنا الباطنيّة، الهادمون حياتنا بمعول الأنانيّة الشخصيّة النَتِنة، غيرَ مبالين بجوعنا، وقهرنا، واضطهادنا، غير مبالين بذهاب أبنائنا للمدارس والجامعات، فقط أنت وحدكَ مَنْ يبالي، ومَنْ يحمل ثقل الأيام وفرطِ عذاباتها على عاتقكَ المُهتَرئ، وحتى لا تكون كغبارٍ متطايرٍ ليسَ للريحِ فرحًا بطاعتهِ لها، أو ككومةِ خُرَقٍ باليةٍ تصاحبُ القاع ثُمّ تُداسُ بالأقدام، أو خادمًا وضيعًا؛ عليك إسقاط إحساسكَ الداخليّ المتمثل بأهميتك في العالم الذي تعيش في لُبِّ قناعاتك، فهو الشيء الوحيد القادر على منحك جرعات الأمل، وتزويدكَ بطاقاتٍ تكاد تشحن كُل مُدُن قلبكَ بالنور، فتتحول مِنْ شخص مستهلك للألم، إلى شخص منتج للأمل، ثُمَّ يتوفّى ذلك الشيء الذي يستهلكُكَ حدَّ الفراغ، وتنتصرُ جيوش الصبر في العِراكِ الذي يَشُّنُهُ إدمان العتمة الذي أصابكَ بفعل وصول جرعات السوداويّة في دمكَ إلى مستوىً رفيعٍ مِنْ التغلغل، " أنا مؤمن بأَنّ هناكَ سببًا لوجودنا جميعًا، وبأنَّ لا شيء يحدث مصادفة، وبأَنّ هناك أهميّةٌ لكلِّ شخصٍ. مارك مانسون".
الأمل يشبهُ الماء في حركتهِ السحريّة التي يستطيع مِنْ خلالها إنعاش خلايانا الباهتة، فهو السبيل الذي يحفظ للنفس البشريّة حقها في البقاء على قيدِ حياةٍ غير خاضعة للبؤس، فهو مَنْ يبعثُ بذبذباتَه الخفيَّة إيقاعات للنغمِ الهادئ، فتسكنُ الثورةُ المشتعلة في عقلنا الباطنيّ؛ ليستنفر الشعور الداخليّ؛ معلنًا تنبيهات الطوارئ كلها لتوّليد أفكار إيجابيّة؛ تمدنا بطاقة خارقة؛ لتحمل أعباء الحياة التي أثقلت كاهلنا، فانعدام الأمل هو القلق، والاكتئاب المسيطر على ذاتنا، وإيماننا بأَنَّ كل شيء خراب لا يمكن إصلاحه، نتيجة البارانويا الاضطهادية لأصحاب الغرائز الساديّة المرتبطة بعملية فسيولوجيّة دقيقة مسؤولة عن تكوُّن المادة الحيّة المسيطرة على الجسد، فتستسلمُ الحواس لوساوسَ الخطر، وينفصلُ الجسد عن محطة توليد الأفكار فيه، فيغرق العالم بمستنقعٍ مِنْ نوعَيْن مِنْ الظلم، أحدهما يمارسهُ صراع الكوكب ضد الإنسان، والآخر وهو الأخطر، والذي يمارسهُ الإنسان في حقِّ ذاته؛ فتغدو حياتهُ وجبةً طازجةً للبؤسِ المطلق.
إننا نملك القدرة على التحكم بحياتنا، فنحن لم نعد آلات قادرة على الكلام والمشي، وإن حياتنا لم تعد مستنقعًا رماديًا لا قيمة لها، ولم نعد مطيّةً لمشاعرنا وانفعالاتنا، تقودنا لِسُبُلٍ مقطوعةَ الأمل، لا نريد أَنْ نتجرَّد مِنْ مشاعرنا وانفعالاتنا وقدراتنا العقلية؛ لكي لا نكون قنابل موقوتة، فنتحول حينئذٍ مِنْ مجانين إلى معاتيه بعمليّة ( بَضْعِ الفص) لمشكلةِ فقدان الأمل نهائيًا في حياةٍ كريمةٍ، فالعقل هو القادر على إزالة الفوضى مِنْ الانفعالات المجنونة الجامحة داخلنا، وكما يقول سقراط" إن العقل هو منبع الفضائل كلها"، وهيمنة العقل على العواطف الجامحة؛ يساعد الإنسانيّة في إحراز قَدْرٍ ضَخْمٍ مِنْ التحكم بنفسها، فعقلنا المفكّر المسؤول عن اتخاذ القرارات الصائبة، الذي يرهقُ نفسه للوصول بنا إلى برِّ الأمان، وإذا ما استسلمنا لعقلنا المسؤول عن الشعور، ستخيِّمُ علينا الإنهزامية، والصراعات اللامتناهية، فالمشاعر والانفعالات هي النظام الهيدروليكيّ البيولوجيّ المسؤول عن عجلة سَيْرِ أجسادنا، وإن الدماغ المفكّر كما يقول دانييل "الشخصيّة الثانويّة التي نتخيل أنها بطل المسرحية"، فكلما كان الدماغ المفكّر ضعيفًا كان الدماغ الذي يشعرُ مسيطرًا على عجلة قيادة حياتك، خاضعًا للنزوات الكامنة في الدماغ الذي يشعر، فاقدًا القدرة على التفكير المستقل، محولًا حياتك لهزليّة مُمنهَجة لخدمة الذات، مغرقًا كل معتقداتك ومبادئك في وَحْلٍ مِنْ العدميّة، ومُستنقعًا مِنْ اللامبالاة، مسيطرًا عليكَ الإدمان والنرجسيّة، فتصبح مهمة عقلنا المفكّر البحث عن المبررات للأعمال التي لا قيمة لها؛ لإرضاء عقلنا الذي يشعر، " لذا أعاد الفلاسفة الكلاسيكيون الخراب الذي سببه أشخاص نرجسيّون، أو مصابون بجنون العظمة بعد أن صاروا في السلطة".
إن الحلّ المناسب لهذه المشكلة هو السماح لتفوق عقلنا على مشاعرنا، وتفوق الواجب على الرغبة. ولأننا أنكرنا دماغنا المفكّر؛ أصبحنا أنانيين، طائشين، منكرين الواقع الأليم، نعمل وفق نزواتنا، عندها نفقد الأمل وتطحننا رحى الحياة بكل قسوة، ونحن نركض في مكاننا لا نتحرك، وإذا ما توقفنا لبرهةٍ؛ أطبقت علينا الحياة بفَكّيْها.
فالشعور بالألم والمعاناة ماهي إلّا هوّات أخلاقية، وإحساس خاطئ في حياتنا، يدفعنا إلى عمل توازن أخلاقيّ؛ رغبةً في تشكيل إحساس بالاستحقاق بأننا لا نستحق هذا الألم الذي يولِّد مع حضورهِ نوبات حزن متفرقة، وإشفاق على النفس، والاضطراب، فإذا ما حدث التوازن الأخلاقيّ فإنّنا نشعر بشيء بسيط مِنْ الأمل، فنحن نعيش في عالم غارق في الهوّات الأخلاقية، مِنْ إحساس وانفعالات في الشعور المختبئ خلف كواليسِ صناعتهِ، فإذا ما دَرَّبَ الإنسان نفسه على عقدِ صفقاتٍ متتاليةٍ مع رأس مال الأمل، ستزخر حياتهُ بعوائدٍ ضروريةٍ مختومةٍ بعلامةِ استحقاق كل ما هو أفضل، فكَفُّ الأمل لا يُصفق وحدهُ دونَ وجود كف القوة، وفي حال وجودهِ وحيدًا، ربما تستطيع أصابع هذا الكف صنع عملية تكاتف مستمرة لتوليد القوة المختبئة وراء الألم والتي ستظل تسير في اتجاههِ إذا ما عرقلنا مسيرها بتحريك جنود التفاؤل، كما يقول نيوتن" لكل فعل هناك رد فعل انفعاليّ يكافئه ويعاكسه في الاتجاه."