حدّث المقداد بن نزار قال:
طَوَّحَ بي الفَقْرُ، ونأى بي النّقرُ، إلى حيثُ الياقوتُ والزّبرجَدُ، والماسُ والزّمرّد، ونازعَتْني في قلبِي نَوازعُ أنّك امرؤ مُطَـوَّق، وشَطَحَت بي لَواعِجُ النَّفسِ أنّك تَتَحَرّق، وإلى الرَّحابةِ والبِشْرِ تَشْرئِبّ نفسُك وتتعلّق.
ويوم جاءتني البُشْرى يَزفُّها البشير، انطلقتْ أساريرُ وَجْهِي، وغَنَّت مزاميرُ نفسِي، مع أَنّني ما زلتُ في الأَسْرِ مُقَيّدًا، وتَرَكْت "الشَّوْبك" مُعَنًّى مُكبّدًا، وما فتئتُ في جوار الخلودِ مُخَلّدًا، لكنّي وقعتُ بين شدِّ العقلِ مرَّة، وإرخاءِ العاطفة مرَّة؛ فَذَا: اذْهَبْ إِليه ولا تَتَردّد، وإيّاك أنْ تَتْركَها فُرْصةً فَتَنْدَم، وَتِهْ: كيف بِكَ مِن دِفْءِ الفراشِ تَتَقدّم؟ وحَذارِ من مَجَاهلَ مَطْويّةٍ دَعْها ولا تَنْدم؛ بيد أَنّي طَويتُ حديثَ النّفس جانبًا، وآثرتُ رأيَ العقلِ لعلّه يكون صائبًا، مُردّدًا:
تَغَرّبْ عن الأَوْطانِ في طَلَبِ العُلا/
وسافرْ فَفي الأَسْفارِ خَمْس فَوائِدِ
تَفْريجُ هَـمٍّ، واكْتِسابُ مَعيـشَةٍ،/
وعِلْمٌ، وآدابٌ، وصُحْبةُ مـاجِدِ
ويومَ ذهبتُ إلى المدير العام، الأستاذ أبي هشام، كان سعيدٌ جالسًا، وخَلَقَ الثّيابِ لابسًا، فنظرَ إليّ مُنْكرًا عابسًا، فَحدَّقتُ فإذا هو لَسْتُ أَنْساه، وكُلَّ ليلةٍ في المجالسِ أَلْقاه، ويُسْمِعني من الحديث أَحْلاه، وفي الأَسْفارِ يَعْلوني بلاغةً ولا أَعلاه، لكنّ الرَّجل المليحَ، الهُمام الفصيحَ، أَسَرَ بِكلامِه قَلْبَه، وبِلِسانه أَخَذ لُبَّه.
وإذْ أنكرتُ على سعيدٍ حاجتي، وغيّرتُ له مَقالتي؛ طربَ وبَشّ، وضَحك وهَشّ، فأدناني إذْ قَلاني، وأضحينا نَسْتمع إلى المُديرِ يَصولُ في الحديث ويَجول، وبين يديه عَقدٌ مُحْكم مَفْتول، وأَخْبرَ صاحبي أنّك المشارُ إليه، ويوم تَصِلُ إلى المدارس في "الدّمّام"؛ فأنتَ المُكَرّم، وفيها إلى الثانويّة مُقَدّم، ولم يَتْركْ له شاردةً إلَّا أتاها، ولا واردةً إلَّا أفضاها، فانتفضَ انتفاضةَ عُصفور، ونَشِطَ من عِقالٍ في حُبور.
وكانَ لأبي هشام، في الأَسْرِ واللّجام، فصاحةٌ وبَصرٌ، وبلاغةٌ ونَظرٌ، وكانت كلماتُه وَقْعُها في النفوسِ أَرَقُّ من النّسيم، خِتامُها مِسْك ومِزاجُها من تَسْنيم.
قالَ الرّاوي: حَدّثني صاحبي قالَ: ويومَ وَصَلنا إلى المدارسِ النَّموذجيَّة، ذهبنا إليه نُقدّمُ التّحيَّة، فألفينا حولَه معلّمينَ أعوانًا، كانوا رَهْن إشارته ذلًّا وهوانًا، فإذا مشى بينَ يديه قاموا، وإذا تَكَلّمَ الطَّرْفَ غَضُّوا، وإذا أَرْعدَ وأَبْرقَ الجدارَ التصقوا؛ فَعَنْ يمينه "مَحْمود"، حاجبٌ غيرُ مَحْمود، ولسانُه غيرُ مَعقود، وعن شِمالِه "عبدُ اللطيف"، في الحركةِ خفيف، وفي حديثِه أَسيف.
وإذْ بدأ اللقاءُ انعقدتِ الأَلسنة، وتَقَرَّحت المِعَدُ والأفئدة، وأُرْتِجَ علينا في الكلام، ولنكونَ على قدر المَقام، وَدِدنا الجاحظَ في "بيانه"، والمبرّد في "كامله"؛ فإنْ كنتَ ريحًا فقد لاقيتَ إعصارًا: "الورقةَ العليا" أَعْطوهم، وإلى "الكورنيش" خُذُوهم، وفي الأَسْواقِ اصْحَبُوهم؛ فهم لأوَّلِ مرّةٍ يَغْتربون، وجاؤونا في المدارسِ ضيوفًا مُكرَّمين".
غير أنّي ما طَربتُ لهذه المُقدّمات، ولا أَمّلتُ إلفًا في الأيام القادمات، لأنّ الرّجل ظَهَرَ في المدارسِ وبَانَ، وما عاد لنا حيثُ كانَ في "عَمَّان"؛ والعملُ عنده إنَّما يقومُ به مُتملّقٌ جَبان، يُحْسنُ الطّبخَ وإِعْدادَ الخِوان.
وفي اليوم الأوّلِ، من الفَصْلِ الأوّل، كنّا مع الطُّلاب، وما يُدريك مَن طُلاّب؟ قاماتٌ مَمْشوقة، وأَجْسامٌ رَشيقة، أَزْهى من طاووسَ لباسُهم، وأعيى من باقلٍ عُقولهم، وأجمعُ من نَمْلةٍ بُطونُهم، إلى الفُصولِ سَوْقًا يُساقون، وإلى الصلاة كُسالى يَقومون، وبالرّأس كثيرًا ما يَعبثون، وفي الطّابور يَغْشاهم النُّعاس، ولا نُريد إذاعةً يا ناس، فنحن مَخْمورون بـ "الدّشّ" كأنه الكأس، ولولا العقابُ لحطّمنا رؤوسَهم بالفأس.
لكنَّ الوكيلَ باللينِ يُخاطِبُهم، وبالحِلْمِ يُعاتِبُهم؛ لأنَّهم في المدارسِ أُصولٌ، والإدارةُ لهم خَدمٌ وطُبُول؛ فهم يَمدُّونهم بالفلوسِ مدًّا، والمحاسبُ أَحْصاهُم وعَدَّهم عَدًّا، أقاموا مؤسساتٍ للتّجارة، فخانَتْهم العبارةُ والإشارة، فعرَفَ اللّعبةَ طلابُهم، وتَعامَوا لأنّهم صلاتُهم ومِحْرابُهم، لذلك كَثُر في مدارسِهمُ الظّلمُ والتّظلّم، وغابَ عن مَعاهدِهمُ العلمُ والتّعلّم، ولاتَ في قاموسِهمُ الحِلْمُ والتّحلّم.
إنّه عَقْد البَيْن، وكتابُ الأين، أَحْكموا مَوادّه إِغْلاقًا، وما أَرادوا للحَيارَى إِعْتاقا؛ "فويلٌ لهم مِمّا كَتَبَتْ أَيْديهِم، وَوَيْلٌ لهم مِمّا يَكْسِبون"، الحرصُ على المالِ دَيْدَنُهم، وما دَرَوا أنّ الذي أعطاهم يَمْنعهم:
إيّاكَ والحرصَ إنَّ الحرصَ مَتْعبةٌ/
فإنْ فَعَلتَ فَراعِ القَصْدَ في الطّلبِ
قد يُرزَقُ المَرْءُ لم تَتْعَبْ رَواحِلُهُ/
ويُحْرَمُ المَرْءُ ذو الأَسْفار والتّعَبِ
سَمَّوا مدارسَهم صباحًا نَمُوذجيّة، وغَدَت في المساءِ مَعاهدَ ليليّة، وإنّما صَنَعوا سُمْعةٌ ورياء، ودِعايةٌ ورَجَاء؛ فضاقت بِهِمُ النّفوسُ ذَرْعًا، وباتتْ من إِعْيائهم صَرْعى؛ فكم من نفوسٍ تَحَشْرجت، ومنها عبرَ الحُلقوم بَلَغت، وفي "المَرْكزيّ" أَرْواحٌ غَرْغَرت، ومِن فوقِ "كائنٍ" قفزت، ومع "أحمد" ما تَوَرّعَت الإدارةُ ولا بَجَّلت، وفي بَيْعِ الأَسْئلة تَخَاذلت، وللدّروس الخُصُوصيّة ما بَشّرت ولا سَامَحَت، وجَامَلَت "الخطيبَ" فالعقدَ قَطَعَت، ولكَثْرةِ الاستقالاتِ تَعَقّدت، فَرَاحتْ فَنَادتْ فَسَاومت؛ فَرُفِعتْ في "المسائي" أجور، وحُرمَ مِن المحتاجين كثير، متناسين أنّ آهاتٍ في الجَوْف تَحْرقُهم، وصَيْحاتٍ عند الخَوْف تَنْزِعهم.
لكنّهم ما ارْعَوَوا؛ فلا اللهَ راقبوا، ولا الكتابَ قَرؤوا، بل دوائرَ مُخَابراتٍ للعلم أَنْشؤوا، وباسْمِ العلم والثّقافة تَسَلّلوا، وأضحى البُخْلُ دَيْدَنَهم، والخَصْمُ عقابَهم، والتّسْفيرُ حاجةً في صُدورِهم. أمَّا النّكدُ والتَّنكيدُ فهوايتُهم الفُضلى، وأمَّا الكذبُ والتَّكذيبُ فطريقتُهم المُثلى.
وا أسفاه على زُمْرةٍ من المعلّمين، وثُلّةٍ من المُقرّبين، إِحْساسُهم مع طولِ الفترةِ تَبَلّد، ودَمُهُم في عُرُوقهم تَجَمّد، وأَرْواحُهم من الغيظِ تَكادُ تَصَعَّد، يَحْسبون أنفسَهم قُرَّةَ عَيْنِ الإدارة في الصَّباح، وأنّ لهم جُعْلًا مُضاعفًا في الرَّواح، فإذا ما جالَسْتَهم، وفي العمل حاورتَهُم، يَتَمَلْمَلون ويَتَلاوَمون، وبعيدًا عن الجُدران يَتَهامَسُون؛ فقد طالت مُدَّتُهم، وانقضت عِدّتُهم، ولذلك فهم يُحْسِنون صُنْعًا، وإذا قِيلَ لَهُم مُوتوا فَعَلوا طَوْعًا.
قال المقدادُ: وقد طالَ بي حديثُ سعيدٍ، وتَمَنّيت لو أنّني منه بعيدٌ، لكنّه انصرفَ مودّعًا:
وإِنْ قِيل في الأَسْفارِ ذلّ ومِحْنةٌ/
وقَطْعِ الفَيَافِي واكْتِسَابِ الشّدَائِدِ
فَمَوْتُ الفتى خيرٌ له من حياتِهِ/
بِدارِ هَـوانٍ بين واشٍ وحـاسِدِ