أيها الشاعر الكبير

خبرتك يافعاً في الفحيص الابن الأكبر لحنا سماوي أكثر العاملين معنا نشاطاً وإنتاجاً في وادي الأردن، ثم استجبت لدعوة حضور مهرجانٍ شعري عام 1988 في المركز الثقافي الملكي وسمعتك تلقي من شعرك ما طربت إليه، وكانت قصيدتك الرائعة "هوذا يولد كالنخل" المهداة إلى أطفال الانتفاضة. وما زلت أردد كل ما جرى ذكرك على لساني أو لسان أترابي أبياتاً منها لا بد لي من ترديدها في ذكرك هذا:

عندما اقترب الله من جثتي

صحتُ: لا تلمس الرأس يا خالقي

فهو ممتليءٌ بالحكايا

وخَطايايَ ليست خَطايا

إنَّ أعظمها أنني متُّ في وطني

كلَّ يومٍ ثمانين مرة

ولم أكُ فيها شهيداً لمرة

ولم تتبعِ الحُسنَييْنِ خُطايا

غير أن المناخَ تغيّرَ

والريحُ صارت مواتيةً

فليعد صوتُ أمي إليَّ إذن

أيقظي التمرَ يا أمُّ فيَّ

اسحبي من عذوقي

وذوقي

وهزي دمي

سوف تسقطُ منه بروقي

واشعِلي فيَّ نارَ الولادةِ

ها قد وُلِدتُ

سلام عليكِ

سلامٌ عليكِ

وحين أموتُ

سلامٌ عليّا

وحين سأُبعَثُ حيّا

سلامٌ عليّا

ثم فاجأني هاتفك من نيويورك في نوفمبر 1991 حيث كنت تستزيد العلم، تعبّرُ لي عن أمالك ببلوغ السلام العتيد، وتوصيني بفلسطين وأطفال حجارتها الرائعين، وتعود إلى حضن وطنك وتنشط في حناياه وزواياه وأبوابه، وتحتل منصب الأمين العام لوزارة الثقافة، فقصدتك شاكياً سيطرة اللغة الأعجمية على لافتات مصانعنا ومتاجرنا وحتى الإعلانات على أعمدة نقل طاقتنا. وشهدت كم كان صدرك واسعاً وكم انتخيت لأجمل لغات العالم وسعيت في مجموعة الدفاع عن اللغة العربية.

وكم كانت فرحتي بتبوئك منصب وزير الثقافة وفرحت في النشاطات التي اخترتها لها، وكم زاد فخري بك إذ اسرعت استجابة لأحكام مادة معدلة للدستور إلى الاستغناء عن أي هوية أعجمية لصالح هويتك الأردنية الأصيلة وكيف تقدمت باستقالتك من مجلس الوزراء جراء ذلك التعديل.

وأذكر استمتاعي برفقتك في تناول طعام الفطور تكراراً في دابوق وفي تناول طعام الغداء مراراً في الفحيص، ثم في العشاء بمنزلك قبل رحيلك بحوالي الشهرين. لكن ما لن أنساه هو زيارتك لمنزلي قبل بضعة أسابيع وكنت المرحب بي باعتبارك صاحب البيت، وكنتُ المودعَ في وقت لم أعلم فيه أنني أودعك.

أنت تحيي أيها العزيز وأنا أودع. وعتبي أنك لم تبح لي بأية مقدمات لما كان حينها خفيا، وأنت المعروف والشهير بالخلق العالي والشفافية المنشودة. جئتني في زيارتك الأخيرة ضيفاً صاحب البيت، تطلب مني نقداً لقصيدة رائعة نظمتَها بعناية تحكي من خلالها قديم تاريخنا وتشد من أزر شبابنا. أعجبتُ بها أيما إعجاب وتقبلت نقداً إيجابياًواتسع صدرك لتعديلات بسيطة على أبيات قليلة منها.

ثم حانت ليَ الفرصة لأقرأ على مسمعك بعضاً من مقارعتي للشعرأعجبت أنت به وقلت لي:

"لماذا لا تنشر شعرك في ديوان"، أجبت:

" لعلي لو فعلت أدركَتْ القارئين لشعري الحيرة! إذ أكاد أسمعهم يتساءلون: هل هو مهندس؟ هل هو خبير مياه؟ هل هو هاوٍ للطاقة؟
أم هو يُخفي تحت سطوح كل هذه نفسية شاعروقلمُه؟"

وغادرت على أمل اللقاء القريب نقرأ فيه رواية المرحوم غالب سلامة الهلسا "سلطانة" ونستذكر أجواءها الماعينية، وإذ بك يا صديقي تبتعد! وتأثرت كثيراً لرحيل شقيقك سليم فتلفنت لأعزيك وإذ بك عيي، ثم ازددت ابتعاداً كلما رانت روحي إليك اقترابا، فخشيت إذ تذكرت قصيدتك "العناصر" التي تبتدئها:

أعدني إلى الله

أعدني إلى روحه البكرِ روحاً ترِفُّ

أعدني إلى وجهه الأوليِّ

جناحاً يثيرُ السديمَ

ونجماً يشِفُّ

ودعني بعكازة الربِّ أسعى،

أطوِّفُ في ألأرضِ كالريحِ

أفتحُ بابَ الندى وأهِفُّ

أعدني إلى أوّلِ الكونِ

حيثُ المدى نيٌّ

والجبالُ عجيْنٌ

وروحي هلاميةٌ لا تجِفُّ

أعدني،

أعدني إلى الله روحاً ترِفُّ

وها قد لبّى الله دعاءك، واختطفك ملاك الموت ونحن في عجزنا نراقب، ورحلت وما زال وعد اللقاء بيننا ساريَ المفعول. فقد بدأت رحلتك إلى النهاية التي نحن كلنا مدركوها. وأعاني من فراق الأحبة الشعراء ما أعاني، فقد أصابني من تيسير السبول ما أصابني، وها أنت تلحق بي من الأسى ما ضناني. وقد سبقك من الأعزاء الكثيرون، وأترحم على الذين اختطفهم من بيننا ملاك الموت للسبب الذي أوصله إليك، وهو فتك فيروس كورونا بالجميلين منا أذكر منهم المهندس عبدالهادي المجالي والمهندس منير حسني صوبر وعقل بلتاجي ونبيل الشريف، أسكنكم الغفور الرحيم، القوي العزيز في سدرة المنتهى.

وإلى جنان الخلد برحمة القوي العزيز.