** مراكز تتعهد بإعداد الرسائل الجامعية وإيصالها إلى المنازل ..جامعاتنا صارت من أدوات تكريس التخلف الذي انعكس عنفاً ..
تحتل الجامعات في جلّ المجتمعات موقعاً قيادياً متقدماً, تقود من خلاله عملية التطوير والتغيير, نحو الأحسن لمجتمعها. إلا في حالات قليلة تفقد فيها الجامعة دورها القيادي, وتصبح هي التابعة للمجتمع المتأثرة به سلباً.
وفي بلدنا تشير كل المؤشرات إلى أن جامعاته من الصنف الثاني, الذي فقد دوره القيادي, وصار تابعاً للمجتمع, متأثراً بأسوأ ما فيه. بدليل هذا العنف, الذي صار سمة للجامعات في الأردن, التي لا يكاد سجل واحدة منها يخلو من حوادث العنف التي وصلت إلى حد القتل. والعنف في الجامعات الأردنية ينشب دائماً لأسباب سخيفة: كتنافس طالبين على طالبة. أو لأسباب جهوية, أو لثأر عشائري.
إن المتأمل في الأسباب الظاهرة للعنف الجامعي في بلدنا يجد فوق أنها أسباب سخيفة, فإنها أسباب متخلفة, تدل على أن جامعاتنا لم تَحِمْ طلابها من تخلف مجتمعهم. بل على العكس من ذلك, فإنها تغذي هذا التخلف. بدليل أن حرم بعض الجامعات صار يقسم بين طلابها على أساس جهوي وعشائري. وبدليل أن التوظيف في بعض هذه الجامعات يتم على أساس جهوي وعشائري. فقد صار سائداً أن قيام جامعة في منطقة جغرافية أردنية, يعني أن التعيين فيها حتى في الجهاز الأكاديمي يجب أن يتم على أساس عشائري ومناطقي. حتى وإن لم تتوفر في المعينين شروط الكفاءة الأكاديمية. وهؤلاء الذين يعينون على غير أساس الكفاية العلمية في الجهاز الأكاديمي في بعض الجامعات الأردنية, يتعاملون مع طلابهم أيضاً بنفس المعايير التي عينوا على أساسها. فصار نجاح الطلبة من عدمه, وارتفاع معدلاتهم من عدمه يعتمد على الأساس الجهوي والعشائري. وهذه كارثة وطنية يجب أن نواجهها بشجاعة وبدون مواربة. فهي من الأسباب الرئيسة التي أفقدت جامعاتنا دورها القيادي وحولتها من عامل تغيير للواقع, إلى عامل تكريس للتخلف الاجتماعي جهوياً وعشائرياً واقليمياً وهو التخلف الذي صار يعبر عن نفسه بالعنف.
ليست الجهوية بكل تصنيفاتها السبب الوحيد لتراجع دور الجامعات في الأردن. ففي هذه الجامعات تتم ممارسات أخطر من الممارسات الجهوية. فقد صرنا نسمع الكثير من القصص والوقائع, التي يساوم فيها المعلم طالبةً على شرفها وعرضها, مقابل نجاحها أو رسوبها في هذه المادة أو تلك. كما صرنا نسمع الكثير من الوقائع والقصص التي يقبل بها المعلم من الطالب هذه الرشوة أو تلك, مقابل علامة النجاح في هذه المادة أو تلك. وهي ممارسة لا نستغربها من معلم حصل هو أصلاً على شهادته العلمية بالمال من جامعات مغمورة في الخارج. لأن هدف بعض المعلمين من التحاقهم بالجامعة طلاباً لم يكن الحصول على العلم ليكون عالماً ينفع مجتمعه. بل كان الهدف هو الحصول على وظيفة تضمن له دخلاً محترماً. فصار مقياس الربح والخسارة المادية هو الميزان الوحيد الذي يُحتكم إليه. لذلك استسهل الرشوة من طلابه. لأن الأمر لديه ليس أكثر من عملية تجارية تفتقر حتى إلى أخلاقيات ومواصفات التاجر الأمين.
وإذا كان بعض الدكاترة في بعض جامعاتنا الأردنية, قد استمرأوا ابتزاز طلبتهم مادياً, فإن بعض هؤلاء قد استمرأوا سرقة الجهود الفكرية لهؤلاء الطلبة. فقد صار من المعتاد عند هؤلاء الدكاترة ان يطلبوا من طلابهم إعداد بحوث ودراسات حول قضايا معينة, ثم يختارون أفضل ما يكتبه طلبتهم لإخراجها بكتب تحمل أسماء هؤلاء الدكاترة, الذين صار بعضهم أشهر من نار على علم في هذا المجال. بل إن هؤلاء لم يكتفوا بذلك فصارت لهم مراكز ومكاتب يبيعون بها بحوثاً للتخرج, أو رسائل للماجستير والدكتوراه تجري مناقشتها في جامعاتنا, ولا يكون فيها للطالب الذي يتقدم بها جهدٌ أو إسهامٌ إلا المال الذي دفعه مقابلها. دون ان يكلف نفسه حتى عناء الوصول إلى هذه المراكز والمكاتب, فقد صار بعضها يتكلف بخدمة التوصيل إلى المنازل للبحوث والرسائل. ثم نسأل بعد ذلك عن سر تقهقر مستوى خريجي بعض الجامعات الأردنية.
وعن سر غياب الدور الفكري والثقافي لجامعاتنا. وعن سر غياب البحث العلمي عن هذه الجامعات. التي صارت نسبة كبيرة من أساتذتها تستغل سنة التفرغ العملي بعيداً عن أهداف هذه السنة. حيث يمضيها هؤلاء في أعمال أخرى من شأنها أن تدر عليهم المزيد من المال. لأن هؤلاء مشغولون به عن العلم والفكر. ولذلك صرنا نفتقر إلى قامات عالية بمستوى ناصر الدين الأسد, ومحمود السمرة, وعبد الكريم الغرايبة, وعلي محافظة وسعيد التل, وكل نجوم الثقافة والفكر الذين كانوا يتألقون في سماء جامعاتنا, قبل أن يصيبها هذا الذي أصابها من مظاهر الوهن, على أيدي نفر يحسب عليها; لكنه قلب كل المفاهيم المتعلقة بالتعليم الجامعي ومقاييسه وقدسيته وهيبته. من ذلك على سبيل المثال وبالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً انه في كل بلاد الدنيا يسعى قادتها من رؤساء دول, إلى رؤساء وزارات إلى قادة سياسيين إلى تتويج مسيرة حياتهم بأن يلتحقوا بركب التعليم الجامعي مدرسين ومحاضرين, إلا في بلدنا حيث يسعى الأستاذ الجامعي ليتحول إلى موظف بمستوى مدير عام, وأحياناً رئيس قسم في دائرة أو وزارة. فأي هوان هذا الذي جرّه انقلاب المفاهيم عند البعض على القيم الجامعية في بلدنا, التي يضرب بها بعض المحسوبين على جامعاتنا عرض الحائط ثم لا يبالون??.
لقد عايشت العديد من الوقائع والمشاهد التي تُدمي القلب, وتعطي دلالات خطيرة عن مستوى بعض المحسوبين على التعليم الجامعي في بلدنا, وتؤشر في الوقت عينه إلى بعض أسباب ما وصلت إليه جامعاتنا فذات مساء كنت عائداً إلى بلدي من سفر, وفي صالة مطار البلد الذي كنت أزوره, كانت هناك مجموعة من رؤساء ونواب رؤساء بعض الجامعات الأردنية, عائدين على نفس الرحلة, وقد صدمت أولاً من السلوك غير الحضاري لهؤلاء في طريقة تعاملهم الشره مع الطعام الموضوع في صالة المسافرين, وغياب الذوق واللياقة عن طريقة بعضهم في الطعام.
ليت الأمر توقف عند هذا الحد فبعد أن ملأ هؤلاء بطونهم حدَّ التخمة, تحلَّقوا في صالة المطار, وأخرجوا من حقائب أيديهم »ورق الشدة« وخلال دقائق تحولت صالة المطار إلى مقهى شعبي, تعالت فيه أصوات بعض رؤساء الجامعات. ونوابهم بتعليقات نابية وبأصوات عالية, لفتت انتباه المسافرين الآخرين وأثارت اشمئزازهم واستغرابهم. وتمنيت طويلاً أن لا يكتشف أحد من المسافرين أن هؤلاء الذين يلعبون الورق بهذه الطريقة, هم رؤساء ونواب رؤساء جامعات أردنية. وليت الأمر توقف عند هذا الحد فعندما دخل هؤلاء إلى الطائرة, كان دخول بعضهم يفتقر إلى الكثير من اللياقات, خاصة عندما صار يتحرش بالمضيفات, بطريقة فيها الكثير من الرخص والبذاءة, ذكرتني بوزير تعليم عالٍ كان يجلس في مقعد خلفي في طريق عودتي إلى عمان في رحلة أخرى حيث أمضى معاليه, وقت الرحلة بين التحرش بالمضيفة وبين شرح معنى لفظ »مزه« الذي تتداوله السينما المصرية للتعبير عن جمال المرأة. وكيف اتفق مع صديق آخر على رحلة إلى أحد شواطئ البحر الأبيض المتوسط لقضاء وقت مع »مزه«? فهل يؤتمن أمثال هؤلاء على أبناء الأردن? وهل هم قادرون على زرع قيم التقدم والحضارة? وهل هم قادرون على بناء منظومة أخلاقية تسهم في منع العنف الجامعي, الذي ينشب من خلال الخلاف على معاكسة فتاة أو بسبب ثأر عشائري أو تعصب جهوي? ثم نتساءل بعد ذلك عنن سر انهيار الكثير من جامعاتنا, خاصة على صعيد القيم التي حل محلها صعود للعنف الجامعي.