المبالغة وتشويه القيم والعلاقات
د. صبري ربيحات
01-03-2021 11:47 PM
لا أظن أن في العالم من يتفوق على العرب في المبالغة والمجاملات والمسايرة. فالأفراد يتعلمون ذلك منذ نعومة أظفارهم والكبار يحرصون على نقل تقنيات وأساليب المجاملة والمسايرة لصغارهم عبر عشرات الطرق حتى يتأكدوا أن الأبناء يسمعون الكلام وينصاعون لأوامر ورغبات من يكبرهم ويتبارون في الشكر والامتنان والتقدير.
المشكلة لا تقف عند هذا الحد فغالبا ما يصاحب الأدب والمجاملة الظاهرية إحساس عميق بالرفض للموقف ومعارضة لكل ما يجري ورغبة في قلب المشهد رأسا على عقب. للوصول إلى حالة التوازن بين القبول الظاهري للأشياء والإشادة الشكلية بالأشخاص والمواقف يلجأ الأفراد إلى الاستغابة والحديث بما في أنفسهم في جلسات أخرى تعقد بغرض الاستغابة والنميمة والتفريغ لمشاعر الغضب والرفض والمقاومة التي لم يتمكن الأشخاص من التعبير عنها في العلن.
الإطراء والقول الحسن الذي نسمعه في مناسبات عديدة لا يعدو كونه كلاما جميلا قد لا يرتبط كثيرا بواقع الحال ولا بمشاعر القائل. في الآونة الأخيرة أصبح الناس يبالغون في المدح والذم وفي توصيفهم للأشياء والأحداث لدرجة تدفعك لإجراء المزيد من البحث والاستفسار ومن مصادر متعددة للوقوف على صحة ما سمعت. النزعة للتهويل والمبالغة خاصية ثقافية تتسم بها بعض الثقافات ويلجأ لها الكثير من الأفراد عند التعبير عن مشاعر الفرح أو الحب كما يستخدمونها بطرق قد لا تكون واعية عند الغضب والانفعال.
للإسراف في التهويل وتصوير الأشياء والأشخاص والأحداث على غير طبيعتها آثار كبيرة على الموضوعات والأشخاص والأحكام وعلى ما يتخذ من قرارات بحقهم. فقد تسهم المبالغة في تصوير أشخاص محدودي القدرة والذكاء على أنهم عباقرة والانتقاص من قيمة أصحاب الكفاءة الجدارة بفعل المبالغة في الأحكام والتوصيفات الهادفة إلى التقليل من كفاءته والإساءة إليه.
المؤسف بحق أن الأشخاص يعرفون جيدا أن مبالغاتهم في الوصف والحكم تؤثر على الواقع وتحدث تشوها في الأحكام والمراكز والعلاقات ومع ذلك فهم لا يتوقفون عن ممارسة هذا الطقس الذي أصبح مرضا من الأمراض الاجتماعية الشائعة. فالكثير منهم يلجأ إلى تكرار المبالغة والمجاملة وبث الأحكام غير الموضوعية غير آبهين لما يحدثه ذلك من تشويه للقيم والأحكام والمعايير.
الأسباب التي تدفع البعض إلى الإفراط في المجاملات كثيرة ومتنوعة إلا أن أبرزها يتعلق بغياب أو محدودية مساحات حرية التعبير، ولكونها الوسيلة الأسرع في التقرب لأصحاب النفوذ فهي مدخل مهم يكسب الأفراد المتسلقين فرصة لطرح الآراء ولفت الأنظار وعرض مهارات التملق ووضعها كإمكانات يمكن الاستفادة منها من قبل من يرغب في تجنيد الأتباع والأزلام مقابل الحصول على الرعاية أو الوعد بها. في حالات أخرى يعتقد البعض أن المجاملة والمبالغة في المدح خصائص تعبر عن لياقات وكياسة الأشخاص الذين يمارسونها.
تاريخيا يميل العرب والشرق أوسطيون عامة إلى التعبير عن تقديرهم لبعضهم وفرحهم بلقائهم ويمطر الأفراد بعضهم البعض بالقبلات والثناء والإشادة أيا كان مستوى العلاقة القائمة بينهم ولدرجة أن البعض مستعد للثناء على من لا يعرفهم تحت عنوان أن « كل الناس خير وبركة».
في حالات أخرى يبالغ البعض في نقد وتجريح من يعارضونهم أو يختلفون عنهم وأحيانا لا لشيء سوى أن الأشخاص يحققون إنجازات ونجاحات لا ترضي من ينتقد أو تهدد أوضاعه ونظرته لذاته. في معظم الأحوال يأتي النقد والتجريح من الزملاء والأقارب والجيران والمنافسين بغرض الحفاظ على التوازنات والأدوار في البنى التي ينتمي إليها الفرد ولكي لا تتضعضع المراكز والأدوار التي يحتلونها.
في مجتمعنا الذي يعيش حالة لا معيارية يوجد الكثير من المدح والكثير من الذم لأشخاص أصبحوا في مرمى الأصدقاء والخصوم. المحزن بحق أن من الصعب أخذ المديح والإشادة أو الهجوم والتجريح على محمل الجد فقد اختلطت الأوراق وتداخلت المعايير وغابت الموضوعية.
(الغد)