محطات في حياة الهاشميين .. تواضع وضيافة وحياة كريمة
أمل محي الدين الكردي
27-02-2021 12:12 PM
اتصف الملك عبد الله الاول بالتواضع، حيث كان يصغي الى الجميع بكل احساسه وجوارحه وكان قصره مفتوحاً للجميع يقصده الناس بمختلف الاجناس وهي خصلة ورثها الهاشميون الى اليوم وما زلنا نراها الى الآن بالملك عبد الله الثاني أطال الله في عمره ، وهذا ما اكده كلودبير الكاتب الفرنسي الذي يصف شرقي الاردن بمقال في جريدة باريس سوار الفرنسية عن رحلته الى شرق الاردن في صيف 1935م ومقابلته لجلالة المغفور له الملك عبد الله الاول طيب الله ثراه ووصفه لعمان واهلها قال فيه: كنت في القدس وعلى جبل الطور المرتفع عن سطح البحر الميت أمد بصري الى ما حيث يقع البحر الميت الذي ينخفض عن سطح البحر مئات من الأمتار ايضاً وحيث ترى سلسلة جبال رهيبة تشرق من عليها هيبة بلاد عمون المسماة (شرق الاردن).
وفي ذات يوم خطر لي أن أهبط البحر الميت وان اصعد تلك الجبال وأن أرى ما وراءها فامتطيت سيارة وأخذت تتلوى نزولاً من القدس حتى أشرفت على البحر الصامت الذي لا يهدر بموج ولا يصفر بريح فطلبت من السائق ان يذهب بي نحو نصف ساعة على ضفة هذا البحر ففعل وكانت نزهة رهيبة لا ادري كيف أعبر عن المعاني التي سادت نفسي خلالها.
وعادت بي السيارة واخذت تطوي الارض حتى وصلنا الى جسر اللنبي فعبرناه بعد كتابة في اسمائنا في النقطتين الفلسطينية والاردنية، حيث كان العلم الاردني يرفرف ،والحقيقة أن لطف موظفي المخفر الاردني لا مثيل في كثير من المخافر في اوروبا نفسها.
واخذت السيارة تصعد ومرت بجوارها سيارة صغيرة ماركة فيات قال لي السائق ان الذي يقودها هو سكرتير حكومة شرق الاردن الشاب وكان بجواره صديقه وكانا يغنيان بصوت يدل على الثقة والمرح فدهشت لأنني كنت أتخيل رجال الحكومات في الشرق من العجائز المسنين أحنت ظهورهم الايام ومن اللذين يعدون السرور والغناء كفراً وزندقة وعلمت انه اذا كان المسيو هريو وزيرنا يغني بصوت مزعج فان رجال الحكومة في شرق الاردن يغنون بصوت حسن.
وعبرت بي السيارة وانا انظر مندهشاً من وراء الزجاج الى مدينة السلط التي لها وقع في الحروب الصليبية يعرفها أحبابنا الخالدون من أعضاء الاكاديمية كما يعرفون الشمبانيا.
وفي الخلاصة وصلنا الى المدينة عمان ونمت ليلتي نوماً مريحاً وفي الصباح سعيت الى الملعب الروماني فاذا به ملعب كبير تنحدر عليه مقاعد المتفرجين القدماء وتطل من فوقه مغائر الحيوانات والمساجين اللذين كانوا يعدون للصراع ورايت امام الامفتياتر(المدرج الروماني ) بناية عليها علم فسألت دليلي فقال لي: هذا الديوان الذي يجلس به امير البلاد فقلت هيا بنا ندخل من الباب الامامي فمنعونا وقالوا انه الباب المخصص للأمير ودخلنا من الباب الخلفي الى غرفة رئيس الديوان فأستقبلنا ببشاشة وترحاب وتصفيق وجاءوا لنا بالقهوة واخذ رجل عجوز قال لنا انه مستشار الامير يترجم عن الانكليزية بيننا وبين رئيس الديوان الذي قال لنا: هل تريدون مقابلة الامير ؟ فقلنا له نعم ثم عاد وقال تفضلوا فنهضنا ودخلنا غرفة حسنة ،أستقبلنا فيها الامير وهو رجل جليل القدر طلق الوجه واللسان فرحب بنا بجمل فرنسية بينما جاء مستشاره ليترجم بيننا وبينه قال سموه الملكي : اهلاً وسهلاً ان شاء الله تكونون مستريحين . قلنا بخير نشكر لطف صاحب السمو الامير الكريم.
قال كيف رأيتم شرقي الاردن؟ قلنا بلاد جميلة هادئة فيها معنى تاريخي ومعنى طبيعي اجتمعا على احسن ما يكون .قال : يا مرحبا وصفق فجاءونا بالقهوة العربية اللذيذة فشربنا وانتعشنا بينما أشار سموه الملكي الى مستشاره وقال لنا بالفرنسية انه شاعر فطلبنا منه شيءً مترجماً من شعره فأنشدنا في الحقيقة شعراً رائعاً جميلاً فقلت له التجارب والسنون الكثيرة يا جناب المستشار في شعرك فصاح بي فجأة السنون الطويلة ؟وكيف؟ قلت مبهوتاُ السنون الطويلة فزمجر وقال لست اكبر منك ستاً فحملقت به وقلت كيف ؟ قال أتحسبني عجوزاً يا رجل ؟ انت والله العجوز ! انت والمسيو ليبران رئيس جمهوريتك العجائز .قلت ما شأن المسيو ليبران في الموضوع؟ قال هو الذي جئت في عهده لتتهمني بالشيخوخة !اتصارع؟ قالها وزمجر وشمر يديه! قلت أعفني يا سيدي الشاب الجميل اعفني ولعنة الله على فورنوف قال فورنوف في باريس .وقد سكن ليعالج امثالك وبرقت عيناه غضباً بينما كان صاحب السمو يبتسم ثم اخذ المستشار يبتسم بدوره فعلمنا انها مداعبة شاعر وان لا تهديد ولا مصارعة ولا مفأجاة غريبة مزعجة ودخل علينا فجأة رجل منتصب القامة مهيب الطلعة وخط الشيب فوق محياه فحيا الامير الذي عرفه بنا فحيانا بلطف وادب يحسد عليه عظماء لندن وباريس وعرفنا انه رئيس وزراء شرقي الاردن فتحدثنا معه فإذا به رجل قانوني نبيل قل أمثاله في باريس وكان ناسخاً لكل الصور السخيفة التي تخيلناها لرجال الشرق وبعد ان تحدث مع الامير خمس دقائق في شؤون هامة على ما ظهر ودع سموه وودعنا بعد ان رجا ان نكون مستريحين وان نرجع اليه في كل ما يهمنا وما يلزم فشكرناه شكراً كثيراً.
وخرجنا من عند صاحب السمو الملكي الامير واخذنا نسير في الاسواق فكان مما يدعو الى الدهشة اننا لم نصطدم ولا بشحاد واحد وبألاحرى لم نشاهد شحادا ابدا بعد ان ضقنا ذرعا بشحادي القدس والقاهرة وغيرهما فسألت دليلي عن سر ذلك فقال: ان رئيس الحكومة ابراهيم باشا لما استلم الحكومة أمر بأن يجمع الشحادون واقطع لكل واحدا منهم ارضاً ودفع له من الخزينة ثمن البذار ومصاريف الزراعة على ان يعيدها بتقسيط خفيف الى ميزانية الدولة ،وأمر البلدية ودائرة الاشغال بأن تستخدم منهم عمالاً وهكذا صاروا رجالاً لهم كرامة واستراحت البلد من الشحادة والشحادين قلت ان رئيس حكومتكم يضرب المثل السامي لا كثر حكومات العالم ويجمع بين العطف على الفقراء والنظام في أحسن صورة انسانية وقانونية وأخذ المسيو كلود بعد ذلك يشرح زيارته لجرش ومادبا ووادي موسى ويصف شعوره نحو تلك الآثار الضخمة الباقية ثم أخذ يصف عودته الى عمان وسفره منها الى القدس واختتم مقاله بأن تأثير زيارة شرقي الاردن كان له وقع رائع ومهيب وجميل جداً في نفسه وانه سوف لا ينساها طيلة حياته. هذا الوصف الذي كتبه كلودبير الفرنسي وعبر عن شعوره العميق إتجاه امرة شرق الاردن وملكها وحياتهم البسيطة في ذلك الوقت. رحم الله مؤسس امارة شرق الاردن وانعم الله علينا اليوم بالاردن بالامن والامان وما زال في المحطات الخالدة الكثير من القصص.