الكاتب التركي أورهان باموك:الشيء الوحيد الذي تغير بعد نوبل هو حسابي البنكي!
15-06-2007 03:00 AM
أجرت المجلة الفرنسية "ليكسبريس" (عدد 3/5/2007) مع الكاتب التركي أورهان باموك، الحائز علي جائزة نوبل للآداب سنة 2006، حواراً مهما عقب صدور مؤلفه الأخير إسطنبول ـ ذكريات مدينة . وهو بمثابة سيرة مزدوجة للكاتب ومدينته التي نشأ وترعرع فيها. وفي هذا الحوار يتحدث الكاتب عن وجهة نظره في العمل الأدبي وعن مدينته وكذلك عن التهديدات التي وجهت إليه داخل تركيا بالقتل.
للتذكير فأورهان باموك من مواليد إسطنبول بتركيا سنة 1953، وله عدة أعمال روائية أهمها: الكتاب الأسود ، القلعة البيضاء ، إسمي أحمر ، ثلج واسطنبول . وقد نال عن جل أعماله عدة جوائز أدبية من وطنه تركيا ومن فرنسا وألمانيا كانت آخرها جائزة نوبل السويدية. كيف هي أحوالك؟
علي أحسن وجه، لقد استقررت منذ أسابيع بنيويورك في إطار تلبيتي لدعوة وجهت لي من طرف جامعة كولومبيا. إنها المرة الأولي التي ألقي فيها دروساً، كما أنها المرة الأولي التي أزاول فيها مهنة معينة، فطوال عمري لم أفعل شيئا غير الكتابة. كما أنه بالنسبة إلي إنه رجوع إلي الأصل لأنني هنا داخل غرفة طلاب صغيرة كتبت روايتي الأولي: الكتاب الأسود. حينها لم أكن أملك مالا ولم أكن تقريبا أجد ما أقتات به وكنت أقرأ الكتب داخل أروقة المكتبات.
تعود اليوم بعدما حصلت علي جائزة نوبل للأدب، فما الذي تغير الآن؟
لندع لغة الخشب جانبا. إن أول شيء يتغير بعد حصولك علي جائزة نوبل هو رصيدك البنكي. بطبيعة الحال هذه الجائزة هي بمثابة تشريف لي خصوصا أنني أول تركي يحرز هذا التتويج. وإنني جد سعيد بذلك. ولكن من جهة أخري فالجائزة تفرض علي أن أتحول إلي دبلوماسي ضدا علي طبعي الذي لا يتلاءم مع كثرة الترحال والاستجوابات بل ينحو تجاه العزلة والإبداع. إنني أًستدعي في أنحاء المعمور لأعطي رأيي فيما يجري سياسيا، وهذا أمر يزعجني لأنني كاتب ولست معلقا سياسيا. من جهة أخري حصولي علي الجائزة مبكرا يوفر عني الإجابة عن أسئلة الصحافيين الدائرة حول إمكانية حصولي يوما عليها.
أليست المسؤولية هي أكبر علي عاتق من تسلم الجائزة؟
إنه سوء فهم، فلا أعتقد أنه بحصولي علي الجائزة أصبحت فجأة إنسانا مختلفا، أي مخولا لي الحديث في السياسة. أنا لا أحبذ فعل ذلك. إننا لا نصبح أكثر تأدبا لأننا حصلنا علي جائزة نوبل. مسؤوليتي لا تنحصر في ادعاء إنقاذ العالم أو تغييره بخطابات سياسية، ولكن مهمتي هي الاستمرار في كتابة الروايات، ولهذا حصلت علي الجائزة وليس لأسباب سياسية.
لكن هذا ما يروج له بعض خصومك داخل تركيا.
هذا صحيح، ولكن ما يحرك هذه الهجمات هو الغيرة أو عدم اهتمام الوسط الأدبي بأصحابها. وفي جميع الأحوال هذه الجائزة لا تغير من رؤيتي لحياتي في شيء، فأنا لا أنوي توجيه الضمائر بل سأستمر في الاستيقاظ كل صباح لأكتب القصص.
ولكن ألا تظن أنه بطريقة معينة يمكن للأدب أن يغير العالم؟
ليس لي مثل هذا الادعاء. فأنا لا أكتب لأغير العالم. إنني أكتب لأنه يجب علي أن أكتب. هذا كل ما في الأمر. إنني أشبه بطفل يلعب الكرة عن حب وتأتي أنت لتسأله هل له نية في تغيير العالم بضربة كرة.لا، إنه يلعب لأن هذه اللعبة هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة له للوجود. وإذا أصبح يوما بطلا وساهم ذلك في تغيير بعض الأشياء في العالم فهذا شيء آخر. فلنكن جديين، إن غاية الأدب ليست هي خدمة الإنسانية. علي الكاتب أن يرصد أعماق وجدانه ومخيلته. التغيير يقع عندما يذهب بعيدا إلي حدود هذه المغامرة، وبنفاذه إلي عمق الروح الإنسانية قد يكتب روايات يمكنها، بطريقة ما، أن تكون مفيدة للبشرية. ولكن لا يجب أن تصير هذه النقطة هاجساً، فخدمة الإنسانية هي نتيجة وليست هدفاً.
تلقيت تهديدات بالقتل من طرف قوميين متعصبين فهاجرت من اسطنبول، فهل ستعود إليها؟
نعم، لأنني لا أهول الأمور. وقد تلقيت دائما تهديدات ولكن لم يكن ذلك بسبب رواياتي، فالذين يهددونني لا يقرؤون كتبي. إن تصريحاتي خلال الاستجوابات الصحافية هي ما يجر علي هذه الاعتداءات وليس عملي ككاتب، فتصريحاتي غالبا ما تُحور وتؤول بشكل سيء من طرف أشخاص أظن أنهم غيورون أو أناس هم في حالة غضب.
تخشي الموت؟
بطبيعة الحال. ولكننا سنموت يوماً، أليس كذلك؟ أظن أن إحدي السمات الرئيسية للطبيعة البشرية هي قدرتنا علي نسيان المستقبل، وهذا ما يسمح لنا بأن نكون متفائلين. شخصيا هذا ما يجعلني أحافظ علي ابتسامتي وفي البقاء علي قيد الحياة. إنني باقٍ.
تتموقع اسطنبول في قلب كل أعمالك وتكتب بأنها مدينة بين عالمين ، كيف يمكن العيش هكذا مفرقاْ؟
إن تركيا واسطنبول تغري بالكثير من الكليشهات، بعضها يتضح أحيانا وكأنه واقع. ولكن في ما يخص اسطنبول يجب أن نفهم بأن هذه الحاضرة هي ثقافيا من أوروبا الشرقية المنغرسة في المشرق. طبيعتها أن تكون بين الشرق والغرب. ولكن، عندما نعيش هناك حياة يومية لا نشعر بالأمر. يجب أن يغادر المرء المدينة ليحس بذلك أو أن يكون أجنبيا ويقوم بجولة سياحية فيها. إن لنا ثقافتين، وروحين أيضا.
هل تشكل هذه الطبيعة المزدوجة امتيازا أم مشكلا؟
بالنسبة لي إنها امتياز. في اسطنبول كُثُر نحن الذين نريد الاستفادة من جميع ما تمنحه كل ثقافة علي حدة. لكن بالنسبة لآخرين ـ وهم قلة ـ هذه الازدواجية غير متحملة وينظر إليها علي أساس أنها شيزوفرينيا . مشاكل الهوية التي يتعرض لها بعض سكان المدينة هي مرتبطة جذريا بذلك. إنهم محاصرون بين وجهين متناقضين جداً في ما بينهما. بالنسبة للبعض هذه الازدواجية هي أيضا تعارض بين أمل في الديمقراطية ورفض لها. بينما أظن أن غني وعمق الثقافة التركية مرتبط بهذا المزيج من حضارتين ووجدانين تتولد عنها مخاضات، لكن في خضم هذه المخاضات تنبثق الثقافة الحقيقية.
كثيرا ما يقال عن نيويورك بأنها ليست الولايات المتحدة الأمريكية. فهل يمكنك أن تقول نفس الشيء عن اسطنبول، أي بأنها ليست تركيا؟
في الواقع إن اسطنبول مختبر خصوصا في مجال السياسة والديمقراطية. وعلي العكس من ذلك إنني أتجاهل ذاك التكبر الفكري القائم علي القول بأن المدينة التي نقيم فيها (نيويورك بالنسبة للأمريكيين أو اسطنبول بالنسبة للأتراك) هي مختلفة عن باقي البلاد، أي أنها أعلي منها مرتبة. إذا أكدت بأن اسطنبول لا تشبه المدن التركية الأخري فهذا مرده قبل كل شيء لكوني كاتبا اسطنبوليا، فقد ولدت وترعرعت في اسطنبول وأكتب عنها منذ أن حملت القلم. والاختلافات التي أشدد عليها هي مميزات خاصة بهذه الحاضرة أكثر من أن تكون مجرد أشياء لا نراها بباقي المدن، وهذا بكل صراحة لأن اسطنبول مدينة تركية. لننسَ الخطاب السياحي الذي يدعي بأن الأمر يتعلق بطرف أوروبا الموجود في آسيا. لا، فاسطنبول هي بحق حاضرة مخضرمة، غربية وشرقية، ولكنها تركية، تركية بعمق. إنها مدينة تسكنها عشرة ملايين نسمة أي أكثر من سكان نيويورك. بينما لا يزور السياح سوي جانب واحد، ذاك الذي يقطنه مليون واحد فقط من البشر، هذا المليون لا يمكنه أن يخفي التسعة الباقين والذين يشبهون ملايين الأتراك في باقي البلاد. اسطنبول تشمل كل مشاكل تركيا. لا تنسوا بأن بعض سكانها هم من أشد الفقراء في كل البلاد. إن المدينة السياحية لا يجب أن تخفي الواقع. كل المشاكل التي تواجه تركيا هي متواجدة في اسطنبول: كبار الأدباء الفرنسيين...
ستكون هناك إذن محاولة لتقديس اسطنبول علي حساب باقي تركيا.
إنها محاولات الغربيين خصوصا، أليس كذلك؟ صحيح أن الأحياء السياحية هي أكثر تقدما وأحسن تحديثا وتفتحا، وسياسيا هي أكثر وعيا من الأحياء الأخري ولكنها ليست أكثر أهمية منها. إن اسطنبول حيث ترعرعت لا يزورها سياح، إنها نفس البيئة التي لقرية بوسط أناطوليا، يجب الإقرار بذلك. إن هناك جانبا أسود قديماً في هذه المدينة والذي يجعل التعايش بين هذين العالمين مهما وخطيرا في نفس الوقت.
في أية بيئة ترعرعت؟
هذا الكتاب هو سيرة ذاتية، لكنه أيضا تأريخ للخمسين سنة الأخيرة من حياة اسطنبول. إنني أروي القصة الثقافية لمدينتي دون أن تستحوذ فيها سيرتي علي الباقي. المشكل هو أن السيرة الذاتية هي فن الاجتزاء وعدم الإفصاح، أن نشتغل بواسطة الأجزاء ونترك بعض اللقطات للمونتاج كما يقال في السينما. كان بإمكاني أن أكتب عشرة أجزاء عن حياتي وعشرة أخري عن مدينتي، ولكن بالاحتفاظ علي نقط الاشتراك بين الاثنين لم يبق سوي كتاب واحد: هو هذا. لم أحتفظ سوي بالحلقات التي طبعت لحظات الانفتاح الفكري علي الفن والسياسة، فكلها عرفت ميلادها في مكان ما من المدينة وفي وقت محدد، وبطريقة جعلتني لا أدعي رصد تاريخ اسطنبول بل أن أبين بأنه كان لها تأثير واضح في حياة شاب كان علي الدوام يحلم بأن يصبح كاتبا.
أنت تروي بأنك كنت تتمني أن تصبح رساما؟
نعم هذا صحيح بالفعل. بين 7 سنوات و22 سنة أردت أن أصبح رساما. لقد رويت بأية طريقة دفعتني اسطنبول أن أصبح ذاك الرسام الذي لسته. وأنا يافع كنت أتنزه في أزقة المدينة أصور المناظر والناس وعندما أعود إلي البيت كنت أظنني بمثابة بيسارو أو أوتريو. بعدئذ تساءلت عن البعد الجمالي لهذه المدينة، وبتأملي في هذه الفكرة اكتشفت نصوص الكتاب الفرنسيين للقرن التاسع عشر وعلي الخصوص بودلير. بالنسبة له فالمناظر تؤثر مباشرة علي الحواس وعلي وجدان من يتأملها. وبالتنقيب في هذه الفكرة وبمحاولة معرفة لماذا كانت اسطنبول مثيرة جدا صادفت أيضا كبار الأدباء الفرنسيين الآخرين أمثال فلوبير ونيرفال وغوتيي الذين كانوا يأتون إلي اسطنبول ويكتبون حولها الكثير مؤثرين في الكتاب الأتراك ومانحين إياهم القوة أيضا للكتابة. وهكذا بقراءتي لهؤلاء الكتاب فهمت أن الكتابة كانت بصيغة أخري تتساوي مع الرسم. ولأجل ذلك نجد الرسم والرسامين حاضرين دوما في رواياتي. إن الكاتب هو رسام يستخدم الكلمات بدل الألوان والقلم عوض الريشة.
لماذا قايضت بالريشة القلم؟
من بين أمنياتي في أن أصبح رساما هناك الرغبة في قضاء الساعات كل يوم وحيدا داخل المكتب. إنها أيضا ميزة الكاتب، إنني أحب هذه العزلة، كما أحب الحلم كذلك.
ما هو مفتاح فهم اسطنبول؟
التعقيد. إننا نعيش في مجتمعات تريد أجوبة آنية وسهلة لكل شيء. إن اسطنبول مدينة تذكرنا بأن هذه الرغبة هي مجرد وهم، فوحده التعقيد يجيب عن الأسئلة التي تطاردنا. واسطنبول هي وجه التعقيد بعينه، إنها المزيج بين مدينة إسلامية تقليدية ومدينة أوروبية ليبرالية. مفتاح هذه الحاضرة هو في هذه النصيحة: احترموا هذه الظلال والرموز، فكلما أفلتت منك المدينة يمكنك أن تفهمها، إنها مفارقة مطلقة، أفهم ذلك. ففي اسطنبول نأتي للتفرج علي المدينة وليس لاستكشاف أسرارها، لأننا في هذه الحال لن نخرج سالمين.
هل هذا يعني أن اسطنبول قابلة للاندماج في أوروبا؟
بالنسبة إليّ فاسطنبول تشكل جزءا من أوروبا بما أن فريق غلط سراي لكرة القدم يلعب من أجل كأس أوروبا. إذا طلبتم مني معرفة هل اسطنبول توجد في أوروبا سأجيبكم بأن تنظروا إلي الخارطة لتعاينوا الأمر. لكن بكل جدية لسنا لحدود اليوم في المستوي المطلوب. من هذا المنطلق يتوجب علي تركيا أن تكون ثقافيا قادرة علي اللحاق بالديمقراطيات الأوروبية في الاتحاد لكن دون القطع مع جوهرها الحقيقي. فرغبة تركيا في دخول الاتحاد الأوروبي تطرح المشكل التالي: ما هي الثقافة الأوروبية؟ هل هي الدين؟ هل هي التاريخ؟ هل هي الجغرافيا؟ أم هي شيء آخر؟ إن اسطنبول تنتمي تاريخيا وجغرافيا إلي أوروبا، لكن السؤال الذي يجب علينا جميعا (الأتراك وباقي دول الاتحاد) الإجابة عليه هو: كيف نري مستقبل أوروبا؟
حوار مع ترجمة: هشام دحماني/ القدس العربي اللندنية