محطات في حياة الهاشميين .. عشيات الغور .. والامير عبدالله
أمل محي الدين الكردي
23-02-2021 08:28 PM
استقر الامير عبد الله بن الحسين في عمان عام 1921م ومنذ وصوله الى امارة شرق الاردن، واهتم سموه بالادب والشعر الى جانب الحياة السياسية، وكان قصر الامير في ذلك الوقت ملتقى الادباء والشعراء وكان يحب الأغاني وخاصة منها الموشحات ونشأت في تلك الفترة الحركة الثقافية والادبية ،التي وصفها الصحفيين والادباء بعدة صور مختلفة وجميلة ومن هذه الليالي الجميلة في تلك الفترة كتب الكاتب ذو الخال في بداية عام 1935م عن عشية من عشيات الغور مع الملك عبد الله الاول وكان اميراً في ذلك الوقت وكتب.. ولاحت لنا خيام الأمير عبد الله الضاربة في جنات الغور قد لفتننا اليها ورأينا السيارات تأوي الى بيوت الشعر واذا البادية والحاضر تتعانقان تحت راية ابن الحسين ،وقادنا الأمين الاول الى الديوان وبعد قليل رفع جانب الخيمة وأطل الأمير الهاشمي .لفت الأمير نظرنا الى ذوائب الشفق التي أخذت ترف على رؤوس الجبال بصورة مغرية وقال: هذه عشيات الغور الفاتنة وقد رأيت في فندق الملك داوود رسماً يمثل هذا المنظر أصدق تمثيل.وكانت عشية من تلك العشيات العطرة التي كانت تمر على ربوات الحجاز او بسفوحه فيعلق طيها على اردان الافق ويبقى سمر اصحاب العشيات حديث الركبان في كل مكان.
واجتمع الأدب النبيل والنسب الذي تنقطع دونه الاعناق في سليل عبد مناف فتكرم وأمر شخصين من الحاشية الحجازية ان ينتقلا بنا الى جوار البيت العتيق وأن ينشدانا الشعر الحجازي فدوى من اعماق الخيمة صوتهما بشعر الامير:
تضيق بي الافاق ان غاب صاحبي - وان كان عندي كل أهلي وخلصاني
ويئن العود مع أنين الضارب ورفيقه فما أنتهى آخر زفرة حتى نطلب المزيد :
جادك الغيث ايا ارض الحمى - وحبيب فيك سمح لا يشح
قلت للأمير :أه على هذا الحبيب السمح الذي لا يشح نطلبه فلا نظفر بخياله ..وأحببنا أن نسمع حديث القلب ونجواه وأن نحس بالآمال الغامضة التي تمثلها المرأة واذا بالرجلين يغنيان..
الحب كالدهر يعطينا ويرتجع
لا اليأس يصدقنا عنه ولا الطمعُ
صحبته والصبا يغري الصبابة بي
تلتفت قلوبنا الى الحجاز ونرى بعين الخيال آل هاشم يمرحون فوق متون المهاري في احضان الصحاري:
وعليهم اذا العيون رمتهم - عوذ من محمد وتمائم
ولم نستفق الا على صوت الامير يأمرني ان اقرأ قصيدة له فقرائها بصوت عال وعند انتهائي اخذت اتمتم فقال ما بك قلت اريد ان احفظ بيتا ورد في القصيدة وآخذه هدية الى فلسطين اذا سمح الامير فتعطف وقال: انت امين على كل سر وما هو هذا البيت قلت : ويا دجى لونك المسود ذكرني – فرعا احم (لذات الخال).
فقال اخ صديق مطلع على الاسرار لقد هجتم يا سيدي الامير شجون صاحبي ولو اذنتم لاسمعكم من شعره في ذات الخال ،فالتفت الامير الي وقال : اي والله هات نريد ان نسمع قلت لا شيء يا سيدي ولكن ذات الخال حسناء شهيرة في تاريخ الادب العربي احبها احد الخلفاء واهملها مرة فغضبت وقرضت خالها بمقراض حاد .قال لانها عرفت ان الخليفة مفتون بهذا الخال فأرادت ان تغيظه قلت نعم ولكن الخال مظلوم وقد حزن عليه الشعراء وبكوه.
قال الامير زين :ولكن تلك (ذات الخال) في العصر الخالي ،واين (ذات الخال) في العصر الحالي قلت هي زينة الحياة والدنيا يرعانا طيفها فنعيش بالامل بشرق من الشاطىء العربي فيشتد الخفق ويعم النور وما احلى ابراهيم طوقان حين بعث لي بوصف ذلك الشاطئ ويقول:
ذلك الشاطىء لا اوحش من – لمحة الحسن ومن نفحة طيب
ملعب الارام امثال الدمى -ومقيل العاشق الصب الكئيب
موجة في الصدر تلقى موجة - وكئيب يلتقي فوق كئيب
فضحك الامير ضحكة حلوة وقال :اوه.. ليتني اراها وقمنا عن العشاء والامير يقول صلة الادب اقوى الصلات ويجيبه صديقي قائلاً ما كنا ندري انك اميرنا في الادب كما انت اميرنا في السياسة وخرجنا من المضرب وكان القمر يغطي الطبيعة بردائه الفضي الجميل قبل ان تنام بين يدي الزمان وصاح الامير يا عيار ! اوصل الضيف الى القدس بالسيارة وانزويت في ركن من سيارة امير الاردن – صدقني يا أبا رعد – استعرض هذه العشية الندية تهفو بي الخاطر احلام الهاشميين فتيان سيد قريش فتنير الذكريات حواشي السيارة وعدت وحيداً كما أنا في هذه الحياة ،ذرة غريبة تتقاذفها الايام ،تعيش في كهف الآمال الضائعة والذكريات الحزينة ، حياتها صحراء لاذعة لا واحة تخفف لذعها ولا مورد عذب يطفىء حر الاوام.
هذه السيارة الفخمة – والعفو يا سيدي الامير – اعجز من ان تبعث الى شفتي ابتسامة وما احوجني الى ضحكة ذات الخال تنفلت بين الشفتين الغاليتين ليرن صداها في اعماق قلبي فتبعثني خلقاً جديداً ويرتسم خيالها على شفتي المرتجفتين ومجموع هؤلاء الحسان لا يعادل بريق نور من العينين الناعستين التين تشتغلان القلوب وهما لاهيتان.
ونزيد بالذكر بأن قصر الامير شهد حركة ثقافية وشعرية في تلك الفترة وكان يرعاها بنفسه ،أضافة ما كتبه الصحفي تيسير ظبيان صاحب جريدة الجزيرة الاردنية بكتاب مذكراته والذي كان بعنوان الملك عبد الله كما عرفته قال فيه: لم تكتحل عيناي في جميع سني حياتي بمشاهدة مجلس أبهى واشد هيبة وارفع قدراً وأنبه ذكراً واطيب اثراً واوقع في النفس واحب الى القلب من تلك المجالس الخاصة التي كانت تعقد من حين لاخر في قصر رغدان اوبسمان او المشتى بالشونة برعاية الملك عبد الله بن الحسين لما كان يدور بها من مساجلات ومطارحات ادبية ومناقشات دينية وعلمية وحوار سياسي على مستوى رفيع.