اسميك يحذر من استخدام الإسلام لأغراض اقتصادية
حسن اسميك
22-02-2021 01:38 PM
يكاد الاقتصاد والسياسة يكونان أكثر المجالات ارتباطاً بالإنسان من ناحية التأثير فيه والتأثر به. فهما يتصلان اتصالاً وثيقاً بالواقع الاجتماعي الملموس، وينطلقان منه. إن كلاً منهما متداخل ومترابط مع الآخر إلى حد لا يمكن معه الفصل بينهما. وبتعبير آخر، إنهما وجهان لعملة واحدة، فالسياسة تساهم مساهمة أساسية في بناء الواقع الاقتصادي وتحديد نشاطاته وعملياته. ويلعب الاقتصاد من جانبه دوراً رئيساً في رسم معالم العملية السياسية وتقرير خياراتها وإمكاناتها.
معروف أن القرار السياسي الإيجابي غالباً ما يمهّد لتحقيق منافع اقتصادية تأتي عبر الاتفاقيات التجارية وعلاقات التكامل والتعاون الاقتصاديين بين الدول. وبشكل مشابه، كثيراً ما تؤدي العلاقات الاقتصادية الجيدة بين الدول إلى توطيد العلاقات السياسية وتفعيلها. ويحضرنا هنا مثال العلاقة بين الصين واليابان، وكيف أن المصلحة الاقتصادية لبلدين كانت بينهما عداوة تاريخية، شجعتهما على التواصل السياسي. والعكس صحيح أيضاً، ففي كثير من الأحيان يمهد الواقع السياسي السيئ بين الدول، إلى تراجع كبير في علاقاتها الاقتصادية، برغم كون الأخيرة هامة للطرفين.
بعد هذه المقدمة التي تعمدت فيها تناول فكرة التأثير المتبادل بين السياسة والاقتصاد بشيء من التفصيل، أنتقل إلى ما هو أهم في رأيي من علاقاتهما التفاعلية هذه، أي سعي البعض إلى المزاوجة بينهما وبين الدين. فالواقع، إنه لمن الخطورة بمكان ما نراه من سعي البعض إلى ربط الدين بأحد هذين المجالين أو بكليهما.
ومن النتائج التي يتمخض عنها هذا الربط المشبوه مشاريع الإسلام السياسي المطروحة في منطقتنا العربية وحولها، والتي ادّعت أن السياسة تتأثر بالدين الذي تستغله كأداة لتحقيق مآربها. وهذا موقف مرفوض تماماً، من وجهة نظري، ويعرف القراء والمتابعون موقفي الواضح منه، والذي عبّرت عنه في مقالات عدة.
لقد دأبت الجماعات السياسية الإسلامية على رفع شعارات دينية تستخدمها وتوظفها لخدمة ما هو دنيوي بحت، إذ يزعم القائمون عليها أنهم يطبقون شرع الله، وأن كل ما يمارسونه مستمد من الدين، ثم سرعان ما يتمادى هؤلاء الأشخاص فيضفون هالة القداسة الدينية على أنفسهم، حتى إذا انتقدهم شخص ما من قريب أو بعيد سرعان ما يتهمونه بمهاجمة الدين، وصولاً إلى النفاق ثم الكفر فالخروج عن الإسلام بالكامل وتحليل دمه وماله.
ساعدت هذه الشعارات والممارسات أنصار الإسلام السياسي على استقطاب شرائح واسعة من المتدينين الذين يعتبرونهم حماة الدين والشرع، كما دفعت العاطفة الدينية العديد من أفراد مجتمعاتنا إلى الوقوع في شرك هؤلاء السياسيين وعدم التنبه لممارساتهم البراغماتية التي تسيء عملياً إلى الدين. ولنا في التجربة المصرية بعد عام 2011 أوضح مثال، من خلال وصول جماعة "الإخوان المسلمين" إلى الحكم وممارساتهم التي أساءت إلى واقع مصر ومكانتها في الوطن العربي.
ويلمس المراقب عند معاينته حال مجتمعاتنا معاينة متأنّية أن إساءة استخدام الدين لأغراض سياسية تتم عند هؤلاء بأدوات اقتصادية أيضاً. ففي كثير من الأحيان تسوّق جهة اقتصادية ما مشروعاً تجارياً أو منتجاً جديداً، بواسطة شعارات ورموز دينية أو حتى أسماء أماكن مقدسة، من أجل استقطاب شريحة واسعة من الجمهور المتدين، والذي يحكم على هذا المشروع أو البضاعة من خلال منظور إيماني، فلا يتنبه الكثيرون إلى أنه مشروع تجاري غايته الأولى والأساسية هي الربح.
في هذا السياق، أعتقد أن "بدعة" البنوك الإسلامية أصبحت اليوم النموذج الأوضح لتوظيف الدين في خدمة الاقتصاد وأصحابه. انطلقت فكرة البنوك الإسلامية ودخلت حيّز التنفيذ في سبعينات القرن الماضي. ويعتقد أن أصحاب الفكرة الأساسيين هم "الإخوان المسلمون" الذين أدركوا مدى أهمية البنوك في العملية الاقتصادية ككل، وبالتالي حاجتهم لوجود نشاط مؤسسي مؤثر إلى جانب مشاريعهم الاقتصادية وجمعياتهم الخيرية التي تعمل كلها لخدمة أهدافهم السياسية، إذ إن من شأن السيطرة على العملية الاقتصادية في المجتمع أن تساعدهم على التحكم به، وعلى إدارة التأثير المتبادل بين الاقتصاد والسياسة بما يخدم أغراضهم.
انطلق مؤسسو البنوك الإسلامية من فكرة أن الفائدة المصرفية تعد نوعاً من أنواع الربا على اعتبار أنها ثابتة ومصرّح عنها، وعملوا على إيجاد صيغة بديلة ذات طابع إسلامي، فاعتمدوا مبدأ مشاركة العميل بالربح والخسارة، للالتفاف على موضوع الفائدة المتعارف عليه لدى البنوك التقليدية. هكذا كان هؤلاء (سواءً أصحاب المشروع الأساسي، أم من تبنوا الفكرة لاحقاً وساهموا في نشرها) يعملون على ممارسة الضخ الإعلامي، بالإضافة إلى استخدام منابر المساجد، بغية الترويج لفكرة الحلال والحرام، وأن الرزق الحلال شرعاً يكمن في توجه المسلمين لإيداع أموالهم في البنوك الإسلامية.
وأدت هذه الدعاية الممنهجة إلى توجه الجمهور المتدين نحو المصارف الإسلامية دون غيرها، مدفوعين بمشاعرهم الدينية لزيادة أرباح من يستغلونهم ومساعدتهم على إحكام قبضتهم عليهم. وأفضى ذلك بالمحصلة إلى تعزيز مكانة البنوك الإسلامية نتيجة زيادة مدخراتها ورفع أرباحها، وهذا بدوره دفع العديد من البنوك التقليدية إلى طرح منتجات مالية إسلامية كي تستطيع الاستمرار في المنافسة.
تأتي أرباح المصارف الإسلامية من الخدمات التي تقدمها لعملائها، كالعمولات الخدمية، وفتح الاعتمادات والتحويلات المصرفية والصرافة وبيع الأسهم وغيرها من النشاطات. تتوافر هذه الخدمات نفسها لدى المصارف التقليدية العادية، التي يتجنّبها بعض العملاء فقط لأنها لا تحمل صفة "الإسلامية"، ظناً منهم أن كل التعاملات التي لا تتم بحسب المصرفية الإسلامية، هي حرام. وهذا ما أدى بدوره إلى رفع شأن البنوك الإسلامية من ناحية زيادة مدخراتها ورفع أرباحها.
ومن السلبيات الجوهرية التي تشوب عمل البنوك الإسلامية، اقتصار معظم نشاطاتها على الأمور التجارية الربحية المضمونة، وابتعادها كثيراً عن المشاريع الصناعية والزراعية، سواء تلك الاستراتيجية أم الأخرى الناشئة.
أما الأخطر من ذلك كله، فيكمن في التأثير السلبي لهذه البنوك في النسيج الاجتماعي للبلد، إذ إنها تقسم المجتمع على أسس دينية طائفية، وكأن التسمية الدينية للبنك تجعل هذه المؤسسة للمسلمين دون غيرهم، ما يمكن أن يؤدي إلى إقصاء الفئات والجماعات الدينية الأخرى التي تشكل عنصراً أصيلاً في بلدانها. كما يمكن أن يدفع الجماعات الأخرى نفسها مستقبلاً إلى تأسيس مصارف خاصة بها، فمن الممكن أن نشهد مستقبلاً وجود بنوك تحمل أسماء مذاهب أو طوائف أخرى على سبيل المثال!
إن هذه العلاقة بين الدين من جهة وكل من السياسة والاقتصاد من جهة أخرى، تبين مدى خطورة استخدام الدين، والحساسية الدينية في توجيه خياراتنا نحو وجهة قد لا تصبّ دائماً في مصلحتنا ولأجلنا. وهذا يفسر عملياً، كيف أن استغلال الشعارات والرموز الدينية، يؤدي أحياناً إلى خيارات غير صائبة، ونتائج كارثية كتلك التي تمخّضت عنها المؤسسات والهيئات التي تتعمّد تسمية نفسها بأسماء دينية.
أمام كل هذه الوقائع، لا بد لنا من الدعوة إلى إعادة الدين إلى مرتبته السامية، وجعله في مكانه الطبيعي الذي يقوم على ضبط حياة الناس وسلوكهم وتنظيمهما، ليقودهم إلى الطريق القويم، ويبين لهم الصواب من الخطأ. ولذلك، ثمة حاجة كبيرة لوضع حد لاستخدام الدين كعلامة تجارية وسياسية، تنتقص من أهميته ومكانته في نفوس الناس وتجعله سلعة للتداول. وللبنوك أن تختار أدواتها وطرقها كما تريد، شرط ألا تنسب نفسها الى الإسلام أو تستغله. وينبغي أن تنطبق هذه القاعدة ذاتها على الأحزاب السياسية، وإلا فسنرى في المستقبل أحزاباً وبنوكاً مسلمة، وأخرى بألوان الطيف الديني والمذهبي على اختلاف أنواعه، ما سيؤدي بنا إلى مزيد من التشرذم والتفتت.
أخيراً.. إن استخدام الإسلام لأغراض اقتصادية، أو للتربح وجمع المال، أو لحرف موازين المنافسة في عالم الأعمال، يتطابق باعتقادنا مع استخدام الإسلام ـ والدين عموماً - في سبيل المآرب السياسية أياً كانت، وخصوصاً اعتباره مطية للوصول الى السلطة أو الحكم، أو تحويله أيديولوجياً من أجل التأثير في الرأي العام وحرف مساراته باسم العقيدة والدفاع عن الإيمان. وعموماً فإن المسارين (الاقتصادي والسياسي) يكادان لا ينفصلان في الراديكالية الإسلاموية، وهذا ما يتبدى واضحاً من النهج الذي اختطه "الإخوان المسلمون" سياسياً واقتصادياً تحت ذريعة "الحكم بشرع الله". ومع أني لا أقصد هنا أن مشاريع البنوك الإسلامية في العموم هي مشاريع الإسلام السياسي، لكن الخطورة في الأمر تكمن في أن التلاعب بالعاطفة الدينية واستخدامها للترويج للبنوك الإسلامية والدفاع عنها تحت شعار "الحلال"، قد يخفي أحياناً، بشكل مقصود أو غير مقصود، الاعتراف بأيديولوجيا الإسلام السياسي انطلاقاً مما حاولنا توضيحه عن حميمية العلاقة القائمة بين السياسة والاقتصاد.
النهار العربي