من الأفقر؟ الدولة أم المجتمع
عمر مقبل العبداللات
21-02-2021 12:44 PM
يقول الفيلسوف اليوناني "بلوتارك": "إن اللاتوازن بين الغني والفقير هو اقدم الأمراض واكثرها فتكاً للأمم".
ترافقت جدلية العدالة الإجتماعية والإقتصادية مع نشوء الكيانات سواء كانت قبائل أو امبراطوريات أو دول وفي كل الحضارات ولذا فمن الطبيعي أن تحتل حيزاً هاماً وأساسياً لجميع المدارس الفكرية وايديلوجيات الحكم. ويُعرّف تركز الثروة على انه التفاوت الإقتصادي وإنعدام المساواة في الدخل والثروة بين الدول او بين المجموعات البشرية او بين المواطنين داخل الدولة الواحدة. وقد طور عالم الاقتصاد الايطالي "جيني" مقياساً رقمياً "جيني اندكس" لعدالة توزيع الدخل بين السكان، تتراوح قيمته بين صفر الى مئة بحيث كلما كانت القيمة اصغر كانت عدالة التوزيع اكبر والعكس صحيح.
يشير تقرير مؤسسة "فيوشيال كابيتلست" الى أن عشرة دول في العالم تستحوذ على 73.5% من الثروات الخاصة والبالغة 215 تريليون دولار، وفي احدث تقرير لمنظمة "اوكسفام" (تكافح الفقر حول العالم) يشير الى أن الأمريكيين وحدهم يستأثرون ب30% من ثروة العالم والبالغة 360 تريليون دولار لعام 2019، وتمتلك الدول النفطية في الشرق الأوسط من 60% - 70% من ثروة المنطقة مع أنها تشكل 10% من سكان الإقليم فقط.
يبدو المشهد اكثر وضوحاً عند الأفراد حيث يمتلك 2153 مليارديراً ثروةً تزيد عما يمتلكه 4.6 مليار نسمة يمثلون 60% من سكان الكوكب. وفي الولايات المتحدة يكفي أن نشير الى أن مجموع ما يمتلكه "بيل غيتس" (مؤسس مايكروسوفت) و"جيف بيزوس" (مؤسس امازون) و"وارن بافيت" (عملاق العقارات) هو 248 مليار دولار، وهي تعادل ثروة نصف الأمريكيين علماً بأن معامل "جيني" يشير الى نسبة 40% للولايات المتحدة. وفي فرنسا فإن 50% من ثروة الفرنسيين يمتلكها 10% من السكان. أما في الأردن فيشير عامل "جيني" لعام 2018 الى نسبة 40% حيث يحصل اغنى 10% من الأردنيين على 27.5% من الثروة في الوقت الذي تحوز فيه نفس النسبة من الأكثر فقراً على 3.5% من الثروة فقط، ووفق اخر تقرير لمنظمة "اوكسفام" والذي نشر مطلع عام 2021 فإن 930 أُردنياً يمتلكون اكثر من 20 مليار دولار في الوقت الذي تناهز فيه الودائع في البنوك المحلية حتى نهاية آب 2020 مبلغ 35.4 مليار دينار، 94% منها تعود للقطاع الخاص ويتركز ثلثا ثروة الأردنيين في العقارات وودائع البنوك، أي انها ثروةٌ غير منتجة.
يمكن إجمال ابرز الأثار الإقتصادية لهذا المرض بإنخفاض النمو الإقتصادي وإرتفاع معدلات البطالة والفقر وإنخفاض الإنفاق على الصحة والتعليم والنقل، مما يؤثر على جودة الخدمات المقدمة فيها أما اجتماعياً فإنه يقود الى صراعات طبقية ونشوءٍ للهويات الفرعية مما يهدد وحدة المجتمع وتماسكه أما سياسياً فإن تركز الثروة غالباً ما يقود الى تركز سياسي حيث تمتلك هذه القلة الثروة والسلطة معاً. كل هذه الأثار تؤدي الى ذوبان الطبقة الوسطى التي تمثل محور توازن اي دولة ومجتمع.
تستخدم السياسات الضريبية التصاعدية وفرض الضرائب على الثروات لإعادة توزيع الثروة والدخل بين المواطنين بما يقلل من حدة التفاوت بينهم. وقد اشار تقرير لصندوق النقد الدولي عام 2017 الى ان زيادة ضرائب الدخل على الأغنياء ستساعد في تقليص فجوة اللامساواة دون ان تؤثر على النمو واقترح الإقتصاديان في جامعة "كاليفورنيا" (سيتروزوكمان) بأن ضريبة بمعدل 2% على أصحاب الملايين و 3% على أصحاب المليارات كفيلةً بتأمين الخزينة الأمريكية ب 250 مليار دولار.
إننا في الأردن بحاجة الى إصلاح ضريبي لإزالة تشوه توحيد معدلات الضريبة على القطاعات الصناعية والزراعية والتجارية الذي ادخله قانون الضريبة لعام 2018 وذلك من خلال اعفاء قطاع الزراعة من الضرائب نظراً لإرتباطه بالأمن الغذائي وتقليص الضريبة على قطاع الصناعة وفرض ضرائب تصاعدية على اصحاب الثروات، فنسبة 5% كفيلة بزيادة الايرادات ب 700 مليون دينار على الأقل وإذا اضفنا لها مكافحة التهرب الضريبي المقدر ب 700 مليون دينار سنوياً، فإننا سنقترب من هدف موازنة بلا عجز.
أثبت التجارب أن السياسات الإقتصاديه "النيوليبرالية والخصخصة" وبرامج التصحيح الإقتصادي قد تؤدي الى رفع معدلات النمو ولكنها تبقى أرقاماً لا تنعكس على مستوى معيشة غالبية المواطنين وتُركز الثروة بيد قلة منهم مما يؤدي الى تقسيم المجتمع الى صفوة تملك السلطة والثروة وعامة لا تملك شيئاً مما يصيب الأمن الوطني بأبعاده الإقتصادية والإجتماعية قي مقتل. فالعدالة النسبية في توزيع الثروة والدخل تجعل الدول تتربع على قمة مؤشرات التنمية الدولية ومكافحة الفساد وجودة التعليم والصحة ورفاه المواطنين وأمنهم، مما جعل الدول الإسكندنافية (النرويج، السويد، فنلندا) مقصداً للمهاجرين والمستثمرين على السواء. فقد تحولت هذه الدول من مفاهيم الدولة الوطنية الى دولة الرفاه والعدالة الإجتماعية.