-1-
كلما اشتدت أحداث العالم سخونة، وتلاطمت أمواج الأخبار شرقا وغربا، يشعر المتابع بحاجة ماسة لهدنة اختيارية يرتاح فيها من عناء اللهاث وراء الحدث، خاصة في عالم صغير لا يختفي فيه شيء، وتتبرع وسائل التواصل الحديثة بنقلك فورا إلى مكان الحدث، كأنك شاهد عيان، مع ما يرافق هذا من تفاعل ومعاناة وتعب، ويبدو أن الحاجة لتلك الهدنة ازدادت مع تفاعلات الجائحة اللعينة التي ضربت الكوكب، حيث يتعين عليك بين حين وآخر أن تأوي إليك فرارا من عدوى، أو امتثالا لحظر!
-2-
يتحكم بمصير العالم أقل من واحد بالمائة من سكانه، وواحد بالمائة من هذه النسبة الضئيلة، هي ما تقرر مصير البقية، إن تعذر عليك أن تكون من أي من هذه الفئات، فلن يتعذر عليك أن تكون أنت من يحكم نفسك، ومن يقرر مصيرك!
قد تحاول أن تغير بكل ما أوتيت من قوة من الواقع الذي تعيشه، وقد تفشل، فعملية التغيير جهد جماعي، وهي مسيرة معقدة جدا؛ لأنها متعلقة بآخرين، لكنك ستنجح بالتأكيد حينما يتعلق الأمر بتغيير واقعك الشخصي، وبناء "كبسولتك" الخاصة التي تأوي إليها كلما اختنقت من الخارج!
فلسفة «الكبسولة» ببساطة ليست انكفاء على الذات، بل هي بناء ملاذ آمن، أو منطقة محررة لك وحدك، لا يدخلها غيرك، أو من تأذن لهم، وتستأنس بوجودهم، في ظل ظروف سياسية عربية وعالمية بالغة التعقيد، وعصر انهيار شبه كامل لكل شيء، من المشروع أن تفكر بخلاص ذاتي، وعلى نطاق محدود جدا، تحده قدرتك على اتخاذ القرار، يقال هنا أنك حينما تشارف على الوصول إلى حافة اليأس مما يحيط بك، تبدأ بالاهتمام بحديقة منزلك، التعبير يختزل الكثير من فلسفة الكبسولة، هو ليس هروبا من المسؤولية ومكابدة الناس، بل انسحابا تكتيكيا إلى الداخل، كلما شعرت أنك بحاجة لاستراحة محارب، لتواصل بعد هذه الاستراحة المكابدة والمجاهدة والمناجزة!
-3-
يقول الكاتب عامر الحافي، إن الخلوة ( أو الكبسولة بتعبيرنا) سُنّة الأنبياء عليهم السلام، وكثير من الفلاسفة والصوفية والقدِّيسين. والخلوة تَسبق الوحي والنبوة. ففي الخلوة تلقَّى آدم من ربه كلمات، وفيها جَنّ على إبراهيم اللَّيلُ ورأى ملكوت السموات والأرض، وفيها تلقَّى موسى الألواح من الله، بعد أربعين ليلة قضاها في خلوته بعيدًا عن بني إسرائيل. وفي محراب بيت المقدس، كانت مريم عليها السلام تعيش أجمل أيام خلوتها: "كلَّما دخل عليها زكريَّا المحرابَ وَجَدَ عندها رزقًا قال يا مريمُ أنَّىٰ لكِ هذا قالت هو من عند اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرزُقُ من يشاءُ بغيْرِ حِسَابٍ" [آل عمران: 37]. ويحدِّثنا الإنجيل بخلوة المسيح عليه السلام، عندما كان يذهب إلى الصلاة في الصباح الباكر: ""وفي الصُّبح باكرًا جِدًّا قام وخرَج ومضَى إلى مَوضِعٍ خَلاءٍ، وكان يُصَلِّي هناك"" (مرقس 1: 35). وكان المسيح يدعو تلاميذه إلى الخلوة بقوله: ""تَعالَوا أَنتم إِلى مَكانٍ قَفرٍ تعتزِلونَ فيه، واستَريحوا قَليلًا"" (مرقس 6: 31). وفي الخلوة، تلقَّى أيضًا المصطفى كلمات الوحي الأولى في غار حِراء، بعد أن ""حبِّبَ إِلَيهِ الخلاءُ وكانَ يَخلُو بغارِ حرَاءٍ، فيتحنَّثُ فيهِ وهو التَّعبُّدُ اللَّياليَ ذواتِ العددِ قبلَ أن ينزعَ إلى أهلِهِ ويتزوَّدُ لذلكَ، ثمَّ يرجعُ إلى خديجةَ فيتزوَّدُ لمثلهَا حتَّى جاءهُ الحَقُّ وهُوَ فِي غارِ حِرَاءٍ.."" (البخاري)
-4-
سأعترف، حينما أبدأ بالكتابة، أستحضر من أحب، وأتجاذب أطراف الصمت معه أو معها، أشعر أنني أصنع «كبسولة» معزولة، مليئة بالهواء البكر الذي لم يتنفسه أحد بعد!
اللُّغَةُ.. كبسولة هواء نَقِيّ ألوذ بِهَا؛ لأتنفسك!
بين شهيق وزفير، أكاد أختنق بهما، أحاول أنْ أصنع «كبسولة» هواء نقي؛ لأتنفس بحرية، وفرح، أنجح حينًا، وأخفق في كثير من الأحيان، لكنني لا أستسلم!
أستخلص من وسط الركام، ورائحة البارود، وضباب الكراهية، مساحة صغيرة؛ لأصنع كبسولة وأملؤها بأنفاس من أفتقد ومن أحب، أضعها على فمي كجهاز التنفس، كلما شارفت على الاختناق!
-5-
يحسب البعض أنَّ الخلود إلى النفس، ومسامرة العزلة ضربًا من النكد والكآبة، هؤلاء غير متصالحين مع أنفسهم لدرجة الانفراد بها!
في الخلوة فوائد جمة، ولا يمكن أنْ تعرف نفسك على نحو جيد، إذا لم تتح لك الفرصة لأنْ تخلو بنفسك لساعات قليلة ولو كل أسبوع أو حتى شهر، ففي الخلوة.. محاولة لاصطياد لحظة «راحة بال»!
-6-
قد لا يتسنى للجميع بناء كبسولتهم الخاصة بهم فيزيائيا، كأن يجعل له مكانا حقيقيا يختلي به بنفسه، ولكن لن يكون أي أحد عاجزا عن بناء خلوته المعنوية، حتى وسط الضجيج والفوضى، إنها عملية ذكاء ذهني، تسحبك إلى داخلك، كلما شعرت أنك بحاجة لأن تهجر الكل، وتخلو بك!
ومن أجمل ما قيل في الخلوة:
ابن تيمية: ماذا يفعل أعدائي بي ؟ .. جنتي و بستاني في صدري حبسي خلوة و نفيي سياحة و قتلي شهادة.
برتراند راسل: لحظات من الخلوة و التأمل تحقق لي الهدوء و التوازن التركيز ، و تدفع في نفسي قوة هائلة لمواصلة الطريق.
الإمام الشافعي: ومن أحب أن يفتح الله قلبه، ويرزقه العلم، فعليه بالخلوة وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء وبعض أهل العلم الذي ليس معهم إنصاف ولا أدب.
الإمام الغزالي: وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس. ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها؛ ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر. وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض، والأنهار مفتوحة إليه؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص. فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة.
(العربي الجديد)