حدّثنا المِقْدادُ بنُ نزارٍ قال:
اشتهينا ونَحْن بِعَمّانِ الوِفاقِ، راعيةِ العُروبةِ والاتّفاقِ، أَلْوانَ الحَلْوى، نُصيبُ منها منًّا وسَلْوى. وإذْ هَمَمْنا بالأمرِ، بعد اشتدادِ الحرِّ، تَناهى إلى مَقامِنا، ودَلَفَ في جوارنا، رَجلٌ أَشْعثُ أَغْبرُ، وصاحبُ كِساءٍ مَرْبوعٌ أَسْمَرُ، التحفَ صَمْتًا وأَدَبًا، وطلبَ قُرْبًا وأرَبًا، فجلس على الفراش إلينا، وأَشارَ أَنّي معكم علينا، وأَطْرَقَ أَرْضًا، وحَدّق أيضًا.
ولَمّا حَار ذِهنُه، وطالَ صَمتُه، شَمّرنا عن سواعدنا، وامتطينا نِعالنا، وهَمَمْنا بالقيامِ، إلى الرّجل الهُمامِ، صاحبِ الحَلْوى التّمامِ، غير أَنّه تمدّد بعد تَكَردُسٍ (انقباض)، وانطلقَ مُحيّاه إثرَ عُبوسٍ، وراح يُحَدّث كلامًا يَطُول، يَصُول فيه ويَجُول، كأنّه استذكرَ بيتَ الحُطيئة:
أَبَتْ شَفَتايَ اليومَ إِلاّ تَكَلّمًا/
بِسُوءٍ، فما أَدْري لمن أنا قائلهْ؟
هل أتاكم حديثُ النّعمان، الرّجلِ الوَسْنان؟ يَجْلس مُختارًا، ويأكلُ محتالًا، إذا زُرْتَه، وفي الجودِ حاورتَه، أو إلى الموائدِ قُدْتَه، ارتعدتْ فرائصُه، وتَراخَتْ جوانبُه، يوم أَدْرك أنّ الأمرَ فَصْل، ليس بالهزل؛ لأنّه إنْ هَشّ وبَشّ، وكَرُم ونَشّ، آلَ إلى سُؤالٍ وجواب، وغدا في حَيْرةٍ واضطراب، لا يَعْرفُ مآلَها، ولاتَ يُدْرك عقابَها؛ فَجَيْبُه قد تَتَبرّأُ منه، وزَوْجُه قد تَهْرب عنه، فهم في البيتِ لا يَعْرفون هذه القالة، وما سَمِعوا يومًا بتلك الهالة، كأنّهم مَن عناهم الشَّاعر إذْ قال:
قومٌ إذا استنبحَ الضيفانَ كَلْبُهُمُ/
قالوا لِأُمِهِمُ بولي على النّارِ
فَتُمْسكُ البَوْلَ شُحًّا لا تَجُود به/
ولا تَبُـولُ لهم إلا بِمِقْدارِ
جارت الأيّامُ عليه، فدعانا إلى بيتِه دَعوةً، فانطلقنا نُلبّي سُنّةً، حتَّى نُكْرِمَ النُّعمانَ، وقد شَحَذْنا لها الأسنانَ، لكنَّ الرّجلَ سَلّم أَمْرَهُ، وكَشَف لنا سِرّهُ، وصار يَبْكي مرّة، ويَعْزف غيرَ مرّة، فَحَزِنّا لحالِه، وما طَرِبنا لمقالِه، لأنّه في البيت أَسيرٌ، وهو في البُخْل جَدير، دائمًا يُتَمْتم:
تَرَكْتُ عيالي لا فَوَاكهَ عِنْدهُمُ/
وعِنْد ابْنِ سَعْدٍ سُكّرٌ وزبيبُ
تَلْحظ فيه رَتَابَة الكُبَراء، وبعيدةٌ عنه حَصَافة العُلماء، إنْ تكلّم لا يُسْمع كلامًا، وإذا أَكَلَ أكلَ قَضْمًا، كُلُّ هَمّه أنْ يَجْمعَ مالًا، ولا يُنْفق حالًا؛ فلا يَعْرفُ النّاس له عطاءً، ولا ينالُ منه السّبيلُ سخاءً.
وبقي ضَيْفنا يُحَدّثُ عن نُعْمانَ ولا يَنْزلق، وعصافيرُ بُطونِنا تُزقزقُ من الجُوعِ وفَمُه لا يَنْغلق؛ ففي لسانِه عُذوبَة، ومَقالُه فيه خُصوبَة، وله في المجالسِ حيلةٌ، ويلاطفُ الناس غيلَة.
ولَمّا تَغَيّرت وُجوهُنا، وشُدِهت عُقولُنا، مِن طولِ الخُطْبةِ والخِطاب، وإغلاقِ السُّؤال دون الجَواب، ما عُدْنا نَحْتمل كلامًا، ولا نُطيق سلامًا، غير أنّه اسْتَطردَ: إنْ أَرَدتم قضاءَ حاجةٍ، فـ:
"أَنـا ابنُ جَلا وطَـلاّعِ الثّنايا"/
وعندَ قَضَـا الحوائِجِ تَعْرفوني
قال المقداد: هنا أَيْقَنت أنّ هذا الصّوتَ ليس عنّي غريبًا، ومن ذِهْني ليس قريبًا؛ إنّني أشتمّ رائحة سعيدٍ المُحْتال، ذي المنطقِ والمقال، الذي يُمِلّ ولا يَمَلّ، ويُزِلّ ولا يَزِلّ، ويَحِلّ ولا يُحِلّ.