لقرون طويلة، ظن الناس أن الخبرة مرهونة بالعمر وأنها تؤخذ على جرعات وبموازاة عدد السنين التي تمر على الفرد ويمر بها. بحسب المعتقدات الشعبية، اعتقدت الأمم أن الصغار جهلة والشباب مفعمون بالقوة والحماس والاندفاع وظنوا أن الحكمة والخبرة وقفتا على الكبار.
في ظن غالبية الثقافات والحضارات، المعرفة لا تأتي الا بالمعايشة ومعاركة الحياة وحل معضلاتها وألغازها. للكثير منا كانت الطفولة مرحلة إعداد للحياة فلا يسمح لأحدنا بأن يقوم بأي عمل إلا برعاية الأهل وتوجيههم، فهم يفكرون ويقررون ويسمحون ويمنعون. في كل مرة يسأل الأطفال عن الأشياء أو يحاولون القيام بنشاطات تعجبهم، ينبري لهم من هو أكبر ليقول ممنوع وغير مسموح أو “بس تكبر”.
المقولة التي رددت على مسمعنا لسنوات والقائلة “من يكبرك بيوم يتفوق عليك بخبرة سنة” كانت سوطا يسلط على كل من يخرج على مشورة الكبار ويخالف إرادتهم.. والعديد من الناس حكموا وتحكموا في عائلات وقرى وقبائل وأوقفوا الاجتهاد وحرموا مجتمعاتهم من التحول والتغير بفضل استخدام هذا المعتقد للتحكم في مصادر الناس.
تقسيم الناس الى صغار وكبار وإلى سادة وتابعين لا يقف عند هذا الحد، فقد اعتبر البعض نفسه منتميا الى جماعة أو عائلة أو قبيلة الكبار، كما ينظر الى البعض الآخر بأنهم أقل تأثيرا وشأنا وأهمية ويعاملون على هذا الأساس. الكبر والصغر، والأهمية واللاأهمية يخضعان لمعايير الأصل والعدد والنسب والمال والجاه والقرب أو البعد من السلطة.
الصناعة والتجارة والأفكار الخلاقة حررت العديد من مجتمعات العالم من هذه التراتبية العمرية والعرقية والطائفية وأتاحت للأفراد والجماعات وحتى الصغار السباق والتقدم في بيئة وفضاء لا يكترث كثيرا للأصل أو الفصل بمقدار اهتمامه بالموهبة والقدرة والإبداع.
الصغار والكبار والمهاجرون وغير المهاجرين لديهم فرص لا تحصى في استثمار إمكاناتهم وإبداعهم التي لا ترسم التقاليد ولا الأعراف حدودا لها. بالمقابل ما نزال نسمع في بلادنا أن فلانا يستحق أن يكون في الموقع الفلاني لأن والده كان فيه أو لأنه ابن عائلة لها اسم وأن فلانا ينبغي أن لا يرقى ويتابع هذا المسار لأنه من خارج دائرة الكبار.
في هذه البيئة والأجواء يحتفل الشباب الذين يسجلون إنجازات جديدة أو يحققون مراكز مهمة بالرقص على أنغام أغنية سميرة توفيق “احنا كبار البلد.. واحنا كراسيها”.. وصولا الى “وش علقك بالمراجل يا ردي الحيل…”.
هذه الكلمات واللحن والشحن والتعبئة التي تحدث لمن يسمعها مؤشرات قوية على عمق الطبقية والتراتبية والشعور بالتفاوت الذي يهيمن على أفكار وشعور وسلوك الناس.
خلال العقود والسنوات الأخيرة، جرى الحديث عن أهمية تطوير نظم الانتخابات والأحزاب وصولا الى الحكومات البرلمانية التي تشكلها أحزاب الأغلبية. جميع المحاولات التي استبشر الناس فيها خيرا أجهضت بسبب مجموعة من المقترحات والتدخلات التي قام بها بعض الكبار ممن اعتقدوا أن الحكمة مقصورة عليهم وأنهم يعون مصلحة البلاد ومستقبلها أكثر من غيرهم.
الحجج التي كان وما يزال يسوقها هؤلاء الأشخاص أن الوقت ما يزال مبكرا على التغيير وأننا نحتاج لسنوات لنكون قادرين على اختيار من يتولون إدارة شؤوننا كما تفعل غالبية شعوب العالم.
الكثير من الناس ولدوا وعاشوا وماتوا وهم ينتظرون التغير والتطور الذي لم يحدث بعد. في كل مرة تعلن الدولة عن نيتها التغيير ينبعث الأمل وهم متيقنون أن هناك من هو جاهز ليقول إننا نحتاج لمزيد من الوقت قبل إحداث هذا التحول. الحقيقة الوحيدة الثابتة أن هؤلاء الأشخاص لا يرغبون في التغيير خوفا من أن يفقدوا الامتيازات التي يتمتعون بها. فلا أحد منهم يريد المنافسة أو المخاطرة بأن يحل غيره في الموقع الذي استحوذ عليه.
(الغد)