الاقتتال وإراقة الدم الفلسطيني في مدن وشوارع قطاع غزة تحول الى لغز وأحجية فلسطينية وربما اقليمية. فمنذ اولى مراحل هذا القتل واستباحة الفلسطيني لدم اخيه تم تجريب الكثير من الحلول السياسية والامنية. فأكثر من عشر اتفاقات تمت في غزة بين فتح وحماس برعاية الفصائل الاخرى او رجال المخابرات المصرية وكلها فشلت، بل ان بعضها لم يصمد اكثر من ساعات، وكانت المحادثات في مكة تحت اشراف القيادة السعودية وخرج الجميع باتفاق مكة الذي حطي بمباركة عربية واشادة فلسطينية، لكن هذا الاتفاق لم ينجح الا في تشكيل حكومة مشتركة بين فتح وحماس، وهي حكومة ما تزال بقية الفصائل تعتبرها قد وضعت اسسا للمحاصصة واقتسام النفوذ لكنها لم تفرز حلا للوضع الفلسطيني.السؤال: ماذا بعد ان فشلت كل هذه الخيارات والحلول، واي رعاية او اهتمام اكبر من رعاية القيادة السعودية وحرمة مكة المكرمة التي جرت فيها المباحثات، واي طريق جديدة يمكنها ان يحقق ما فشلت فيه مبادرات مصر والسعودية وجهود الفصائل المتواجدة على ارض غزة؟!
هذا اللغز ينقلنا الى سؤال اخر: هل وصلت الحالة بين فتح وحماس الى مرحلة لا تجدي معها اي وساطات او تدخلات او تفاهمات، وان كلا الطرفين يحمل قناعة بأن الطرف الاخر يسعى لاجتثاثه، ولهذا بنى كل طرف استراتيجية "الغداء على الآخر"، قبل ان يكون العشاء على حسابه!
هل نحن امام قناعات مشتركة من فتح وحماس بأن امكانية التعايش السياسي غير ممكنة ومستحيلة، وان الحل ان يحقق طرف انتصارا عسكريا كاسحا، وان كل ما يجري من تفاهمات واتفاقات بمثابة "استراحة محارب" او نوع من المجاملة للدول، او حتى لا يقال ان هذه الجهة ترفض الحل السياسي والتفاهم ووقف الاقتتال.
والمثير ان الخسائر البشرية كبيرة ففي اقل من (48) ساعة سقط قبل ايام (18) قتيلا و(40) جريحا، وخلال ثلاثة ايام وصل عدد القتلى الى (42) شخصا حتى ليل الثلاثاء، وهذه الارقام اكبر من ضحايا العدوان والاجتياج الصهيوني، وتشير - أرقام الضحايا- الى قسوة القتال، والى ان كل طرف لا يتردد في ان يقتل ويطلق النار بكثافة وغزارة، اي انه لا طرف "يوفر" الطرف الآخر، ولعلنا جميعا نتذكر ان موجة الاقتتال قبل الاخيرة قد سقط فيها حوالي (90) قتيلا.
انهم يطلقون النار بقسوة، على قاعدة ان الآخر لو تمكن من القتل لفعل، لهذا يبرر كل طرف لنفسه ان يقتل، والامر ليس كما يقال بان المقاتلين خرجوا عن قرار السياسيين، فهذا قد يحدث مرة لكن تتابع عمليات الاقتتال، وتجدد المواجهات على مدى شهور يعني ان الامر ليس تمردا من مقاتل على قيادته، بل كل ما يجري ناتج عن تصور سياسي، واعتقاد تتبناه الهيئات صاحبة الصلاحية.
لم تعد التفاهمات تحل مشكلة، ولم تعد حوارات القنصلية المصرية في غزة، او حتى حوارات القاهرة او اي عاصمة قادرة على حل المشكلة. ومن الواضح ان خوف كل طرف من الآخر وعدم الثقة في النوايا وانتشار السلاح والقدرة على القتل في اي لحظة كل هذا صنع واقعا يحتاج الى حلول حقيقية وليس الى تفاهمات ومجاملات. ومن الواضح ان الحل يجب ان يبدأ بتغيير قناعات السياسيين؛ لأن من يحمل البندقية في غزة يطلق النار بقرار سياسي.
قديما قالوا "إن العسكر الذي تكثر فيه البطالة تكثر فيه النجوى"، وما جرى في غزة ان حملة السلاح اصبحوا يعانون من بطالة، بعدما اصبحت السياسة اولا والحكومات ثانيا والمواقع ثالثا والمقاومة عاشرا، ولأن الاولويات تغيرت لم يعد حتى وجود عدوان صهيوني واجتياح لغزة كافيا لايجاد نوع من "الخجل" من الاقتتال بين الاخوة الذين تجمعهم حكومة واحدة برئيس من حماس ونائب من فتح وتفرقهم الشوارع والخوف وانعدام الثقة.
مرة اخرى؛ لا تحتاج غزة الى تفاهم امني بل الى ان يصل كل طرف الى قناعة بان الآخر لا يسعى لاجتثاثه ونزعه من الساحة فهل هذا ممكن! وهل من الممكن للاطرف التي قبلت بوجود كيان الاحتلال عبر القبول بالقرارات الدولية ان تقبل بوجود آخر فلسطيني شريكاً في العمل السياسي!
كل هذا ممكن لكن عندما تكون الغاية هي مقاومة الاحتلال وبناء فلسطين وليست غايات أخرى!
sameeh.almaitah@alghad.jo