دَخلَ فصلَه ضُحى يومٍ من أيّامِ الشّتاء، في مَدرسةٍ رابضةٍ فوقَ سفحِ جبلٍ، كأنَّه التّوباد يَحنَّ إلى الشّتيتين يَحنو عليهما، والشّمسُ تَبزغُ من بين رُكام سحابٍ أبيضَ يلامسُ عَنْقاءَه (قمَّته)، تتسلّل إلى الطُّلّاب من نافذة على استحياءٍ، تَمسحُ وجوهَهم بخيوطِها الذَّهبيَّة، والمعلّم يُحرّكُ سَواكنَهم، ويغرّد لخيالاتِهم، وسامي ولدٌ في الفصل أكثرُ اجتهادًا من غيره، سألَ:
- مَن الطالبُ النَّجيب يا معلّمي؟
- ابتسم له، وقال: ألستَ أنتَ وثلَّةٌ من زملائك نُجباءَ يا سامي؟
(دُهشَ ابنُ السّادسةَ عشرةَ ولم يُحر جوابًا، وأغلق شفتيه، وحَرَّك حاجبيه، وحدَّق في مُعلّمه، لا يُصدّق ما يَسْمع)!
- كلُّ ما فيكم يا أبنائي، من أدبٍ، وحُسنِ خُلُق، وجِدٍّ، واجتهاد، وتَقدُّم، وطَلاقةٍ، وبِشرٍ، وحَظْوةٍ عند مُعلّميكم، ينبئُ أنَّكم نُجباء.
- وكيف يكون يا أستاذي؟ وما صفاته؟
- هو طالبٌ نجيبٌ... وكفى!
- وكفى...؟!
- اكتبوا في دفاتركم:
- الطّالبُ النّجيبُ يا سامي: يَعلمُ يقينًا أنَّه لا يَسْتوي الذين يَعْلمون والذين لا يَعْلمون، وهو يقفُ دَومًا خاشعًا بين يَدَيْ مُعلِّمِ البشريّةِ الأوَّل؛ مُحمَّدٍ -صلّى الله عليه وسلَّمَ- فقد أزالَ غشاوةَ الأبصارِ، ورَفَعَ الخَتْمَ عن القلوبِ وعن الأسماع، وأخرجَ النَّاسَ مِن غياهبِ الجَهْلِ والظُّلَم، إلى نورِ اللهِ ومَعارفِ الإسلام، وهو القائلُ -وقولُه صِدقٌ وعَدلٌ-: "إنَّ الملائكةَ لَتضعُ أجنحتَها لطالبِ العِلْمِ؛ رِضًى بما يَصْنع".
- والطّالبُ النَّجيبُ يا عُمر، هو رجاءُ أهلِه ومُعلّميه، وبدعائِهم تُفتحُ له العَتَبات، وتُسْرجُ ذُبالاتُ مَصابيح الدُّجى، وتُغلقُ أبوابُ الشّياطينِ، ويُضَيَّقُ على المُبْطِلين- لأنَّهم يُؤمّلون فيه الخيرَ كلَّه والأملَ كلَّه، لئلّا تَنتزعَ هذه الخيريّةَ المؤمَّلةَ فيه، وذلك الأملَ المُعوّلَ عليه، نَوازعُ النَّفسِ وحديثُ الأماني.
- وهو يا ياسين، مَن لا تَضْمرُ فيه خليّةٌ، ولا تَصْحبُه انتكاسةٌ؛ لأنَّ الكلماتِ لا تُزهِرُ إلَّا له ولِمن هم على شَاكلتِه، وثوبُ الليلِ ليس غايةً يبغي طِلابَها، ولا غاديةً يرومُ صِحابها، فغايتُه إصلاحُ نفسه، والشُّموخُ بإرادته، بعقلٍ سليم، وعزيمةٍ لا تلين.
- وحِرصُه على العلمِ دَيدنُه يا يحيى، وحبُّ الكتابِ والمعلّمِ أمانةٌ في عُنُقه، وهو الحريصُ على دفاترِه وأوراقِه، ومُجالسةِ الشّادينَ النّاهلينَ من لِداتِه ومَن يَكبَرونه في فَصْله.
- وهو يا رامي، مَنْ يَصبرُ على نَفَراتِ العلمِ وساعاتِ التَّحصيل، ليكونَ في عِدادِ الصَّفوةِ والنُّخبة، لا هَمَلًا بين النّاس وعالةً عليهم، وأضحوكةً في أحاديثهم؛ لا يرضى له هذا إلَّا جاهلٌ أحمقُ صفيق، ارتضى لنفسه أن يكون في الظُّلمات، ويَسُوؤه النّاهضونَ من أقرانِه في العَليَّات.
- ثمَّ هو يا سعدُ، مَنْ لا يَعْلقُ به الغرورُ والعُجْب، ولا يَنْتصرُ لرأيه إلَّا بحقّ، ولا يَتَلَجْلجُ، ولا يُجَمْجمُ؛ فإنّ ذلك يَقتله، أو أنّ فيه قولَ القائل:
لكـلِّ داءٍ دواءٌ يُسْتَطَبُّ به/
إلَّا الحماقةَ أعيتْ مَن يُداويها
فإنَّه إنْ أحسنَ لنفسه، سيكونُ رُكنًا رَكينًا لجيلِ غدٍ مشرقٍ، جيلِ أملٍ وحضارةٍ، جيلِ انطلاقةٍ وإبداع.
- والطّالبُ النَّجيبُ يا أحمدُ، يَمرُّ دائمًا في لَحَظاتٍ نورانيَّة، ونَفَحاتٍ عُلويَّة، يَعلمُها عنه سعيدٌ عاقل، وشيطانٌ مارد، فيختارُ ببصيرتِه الثّاقبةِ الأوَّل، ولا يكون بحالٍ قرينَ الثّاني، فتكونُ لكم عاقبةٌ حُسْنى ومآلٌ أحسن، وكأنَّ لسانَ الشّاعر يُخاطبُه:
واتركْ قرينَ السّوءِ واعلمْ أنّه/
حربٌ عليك، لأنّه مُتَشَيْطنُ
- ولا يكونُ قدوتَه يا عليُّ جاهلٌ أحمق، ولا معلّمٌ مهرّج، ولا ممثّلٌ أرعنُ سفيه، ولا فاتنةٌ رغداءُ حسناء، ولا مُغنّيةٌ مُزركشة هيفاء، يُقلّدُ من غير فكر ولا روِيَّة، بلا إحساس ولا شعور، بَلْ هو خادمٌ أمينٌ لكوكبةٍ فريدةٍ مَضَت؛ بعدما أَصَّلت علمًا، وأقامت صرحًا، وأنطقت حضارة.
- وهو مَن يتجاوزُ الماضيَ يا طه، غيرَ مُتجانفٍ لِنبذٍ أو إقصاءٍ أو إلغاء، بل يقفُ عند مَكامنِ القوَّةِ الضّاربةِ فيه، لاستشرافِ المُستقبلِ بعينٍ باصرةٍ ويدٍ طائلةٍ، ولا يلهجُ لسانُه بفعلِ العَجَزَة: أَصْلي وفَصْلي، ولكنَّه يَعتزُّ بما منه قد حَصَل، وأنَّ الأصلَ والفَصْلَ يَدْفعانِه إلى تَحقيقِ المَزيد، ولسانُ حالِه لسانُ الشّاعر:
أنتَ نَشْءٌ، وكلاميْ شُعْلٌ/
علَّ شَدويْ مُضرمٌ فيك حريقَا
ليسَ في قلبيَ إلَّا أنْ أرى/
قطرةً فيكَ غَدتْ بَحْرًا عميقَا
لا عَرَى الرُّوحَ هدوءٌ، ولتكنْ/
بِحياةِ الكدِّ والكَدحِ خليقَا
- وهو يا سعيد، مِشْعلٌ في جُنْحِ الظَّلام، يُلحِقُه بالرّكبِ الأوَّلين مَضَوا، وقد سَطَّروا نَموذجًا فريدًا في العِلْم، غدا شمسًا تَسْطعُ على سُباتٍ أشادَ اليومَ حضاراتٍ، وسلاحُه في طريقِه الطَّويل: ذكاءٌ، وحرصٌ، واجتهادٌ، وبُلْغة، وصُحبةُ مُعلِّمٍ ماجدٍ؛ يكونُ له ملاذًا يومَ يَعِزّ الناصرُ والمُعين، يُرشدُه إلى الفضيلة، ويُنيرُ له عَتمةَ الطّريق.
- وهو مَنْ تَغلبُ عليه مَشاعرُه وأحاسيسُه في حُبِّ الوَطن وانتمائِه إليه يا ربيعُ؛ يُعلي رايتَه في كلِّ مَحفِل، وفي غير مناسبة، ويَفديه بالنَّفيس والثَّمين، وإذا اغترب يَطويه إليه الحنينُ، ويأبى إلَا أنْ يَظلَّ نَجمًا ساطعًا في سَماءات الوطنِ الكبير.
- والطَّالبُ النَّجيبُ بَعدُ يا سامي، "حَذِرٌ أنْ تَخْفى عليه عيوبُه، فتخفى عليه مَحاسنُ غيرِه"!
- الله الله يا معلّمنا!
- ما أسعدَنا وأنتَ تُشعلُ جَذوةَ النَّجابةِ في دواخلنا؛ تَتَّقدُ ولا تًخْبو!