سأتلقى كمّاً لا بأس به من الشتائم الراقية ، كالعادة ، على مقالي ، لاننا اعتدنا على قتل بعضنا ، بدلا من مناقشة بعضنا ، منذ الفي عام ، وأكثر.
كلما خرج رئيس الوزراء التركي منتقداً اسرائيل صفّق العرب ، ثم عادوا الى نومتهم ، باعتبار ان تركيا اليوم ، عدو اسرائيل الاساسي ، ووكيل عداوتنا ، الذي يقف لها بالمرصاد ، وكل العواطف تتجه اليوم الى اسطنبول ، والى الباب العالي ، والى ما في "الاستانة" من خرائط وكنوز وسيوف عثمانية ، ايضا. سيبقى العرب طوال عمرهم من حضن الى حضن ، ومن وكيل الى وكيل ، ولا يسأل احد اين ذهبت الدول العربية الكبرى الاقليمية بدلا من التصفيق لاسطنبول ، او غيرها من عواصم الاقليم العجمية.
القصة وما فيها ان العالم واسرائيل تحديدا ضجوا من الانموذج الايراني الغاضب. نجاد كل يومين يخرج ويشتم اسرائيل ، وذراعه حزب الله تُنفذ تطبيقات ميدانية على الارض ، رفعت شعبيته. الانموذج الايراني كدولة اقليمية مُسلمة تهدد اسرائيل بالكلام او الفعل ، وتستعد للتسلح النووي ، امر يثير غضب الغرب واسرائيل ، ونصف العرب ، ان لم يكن كلهم. فوق ذلك ، مخاطر المذهبية الشيعية بنظر دول عربية سنية ، لا ترعى اساسا لا السنة ولا الشيعة ، ولكنها تتخوف من التشيع الديني والسياسي ، بعد ان رصدت ارتفاع اسهم المذهب الشيعي ، وتسييل هذا الرصيد لصالح دولة لها اطماع اقليمية هي ايران ، فتذرف دموع التماسيح على المذهب السني اليوم.
الحل كان في خلق ودعم انموذج آخر يوازي الانموذج الايراني. هذا الطرف يجب ان لا يكون عربيا. الافضل ان يكون اعجميا ، من اجل صناعة الصورة. وقلب تفاصيل المشهد. تركيا وحدها المؤهلة لاعتبارات عديدة ، فهي قريبة من المنطقة العربية ، ولها ذكريات وتاريخ وبصمات وايد وارجل ، وهي ايضا دولة مسلمة اقليمية كبرى ، على المذهب السني ، ويحكمها اسلاميون من طراز خاص. كان الحل هو في استمطار غيم "الاستانة" ، بتوافق غربي وعربي واسرائيلي ، لتصعيد الانموذج التركي واحلاله تدريجيا مكان الانموذج الايراني. على ذلك يخرج رئيس الحكومة التركية ويشتم اسرائيل كل يوم. واسرائيل راضية ، لانها تعرف ان العلاقات بين تل ابيب واسطنبول مستمرة ، وتبادل الخبرات الامنية والعسكرية ، مستمر ، والتبادل التجاري مستمر ، غير ان "غضبة اسطنبول" هنا وظيفية ، ويرضاها الغرب ، لانها تحّطم الانموذج الاخطر اي الانموذج الايراني. مع هؤلاء يدخل السلفيون وُيكفّرون الشيعة ، وتُصبح "تنقية العقيدة" اول هموهم ، في هذا التوقيت بعد ان سكتوا كل هذه الدهور.
صناعة صورة تركيا المسلمة السنية الغاضبة على اسرائيل له هدف واحد. طرد الانموذج الايراني بكل تداعياته السياسية والعسكرية والامنية والمذهبية من الذهنية العامة. الدور وظيفي واحلالي. حتى المسلسلات التركية المُعرّبة تدخل في ذات معركة خلع الشوك الايراني من القطن العربي ، ورده الى حقله او اي حقل آمن اخر. حتى كل التوظيفات من اعتذار اسرائيل لاسطنبول على حادثة "الكرسي المنخفض" في الخارجية الاسرائيلية ، والسماح للاتراك الصادقين بالذهاب لغزة ، هو في ذات الاطار. تكسير انموذج شد انظار العرب في توقيت ما الى طهران ، لصالح انموذج اخر مساوْ وموازْ غير انه آمن. تركيا المسلمة تحلم بعضوية الاتحاد الاوروبي. هل دولة تبحث عن مكان في اوروبا ستعادي اسرائيل حقا. لو كانت هذه معاداة حقيقية ، لما سكت الجيش التركي ، ولا تلك القوى السرية والخفية في تركيا ، ولا غيرها من قوى تتحكم في المشهد. لا انفي هنا صدق مشاعر الاتراك من الناس العاديين. نتحدث عن لعبة النخب الحاكمة ، ولعبة الاحلال والاستبدالات في الادوار فقط ، على المستوى الاقليمي والدولي.
على هذا حدث توافق لمنح تركيا هذا الدور وبات مطلوبا منها بعنف ، لطرد تداعيات وظلال وذيول الانموذج الايراني في المنطقة. الشعوب العربية تُصفق للاسف لمن يخطب بحماسة اكثر ، ولا احد يتوقف لحظة عند السؤال حول اي اجراء "عملي" اتخذته تركيا ضد مصالح اسرائيل ، وفي احسن الحالات نحن امام تنافس اقليمي بين طهران واسطنبول ، ولا شيء اكثر من ذلك. مُصيبتنا اليوم في اننا كعرب لا نستطيع الوقوف على اقدامنا دون "عكازات" اقليمية. اما طهران واما اسطنبول ، واما تل ابيب في حالات ، دون سؤال ايضا حول الكيفية التي تم عبرها تذويب قوة وادوار الدول العربية الاقليمية الكبرى. فيا لهذه الفرس العربية ، فمن فارس "اصفهاني" هتك سرجها ، الى فارس"ازميري" اهلك صهوتها ، الى لص "يهودي" سرق زرعها ، وما زال طابور الخيّالة طويل ، وطابور المتفرجين يتناسل يوما بعد يوم.
العرب ادمنوا اليُتم السياسي ، والبحث عن "اب بديل" في الاقليم ، شرقا ، او شمالا ، وحتى غربا ، هذا على الرغم من ان "الاب الاصلي" ما زال على قيد الحياة.
العربي يفكر بقلبه ، لا بعقله.. أليس كذلك؟.
الدستور