في تناقض مفهوم دولة المواطنة مع "خطاب الاقليات والاكثرية"
د.عبدالحكيم الحسبان
19-01-2021 07:46 PM
في توصيف حال المجتمعات المعاصرة وتحديدا المجتمعات العربية التي تعيش أزمة عميقة على صعيد قدرتها على إدارة التنوع الديني واللغوي والقومي فيها، يتردد كثيرا مصطلح "الأقليات" مقابل الأكثرية أو الأكثرية مقابل الأقليات. ربما من نافلة القول، أن المصطلح يختزل في داخله تضمينات عددية ورقمية وهي يشير إلى التفوق العددي لمجموعة ما مقابل الدونية العددية لمجموعة أخرى.
أجزم أن لا خلط مفاهيمي يمارس على صعيد السياسة وممارستها، كما على صعيد التنظير في الشأن العام، أكثر من الخلط المفاهيمي الذي يحدث على صعيد استخدام مفهوم "الأكثرية والأقليات" حين يتم الحديث عن السياسة والشأن العام في مجتمعاتنا العربية. بل ويذهب التعسف في استخدام المفهوم حد عدم الانتباه إلى حجم التناقض الصارخ بين الحديث عن الدولة الحديثة والحداثية والمدنية وقدسية مبدأ المساواة فيها، والحديث بل والقبول في الوقت عينه بحقيقة وجود "أكثرية وأقليات"، ويذهب الشطط في التعسف حد تقسيم المواطنين إلى مواطنين يمثلون "أكثرية" وآخرين يمثلون "أقليات". ولا يجد الساسة كما العوام كما المثقفون غضاضة في الاعتراف بوجود أقليات وبانقسام المجتمع الى أكثرية والى أقليات، مع تبشيرهم ومطالبتهم في الوقت عينه بدولة المواطنة والمواطنين، وكأن مفهوم المواطنة ودولة المواطنة يقبل الحديث عن أكثرية وعن أقليات.
كما أجزم أن هذا الخلط المفاهيمي الذي يمارس على نطاق واسع هو سبب رئيس في تكريس الاستبداد والسلطة الشمولية وعدم الاستقرار السياسي والأمني في المجتمعات العربية. بل وأجزم أن وراء هذا الدم العزيز الذي يسيل منذ قرون هو هذا العقل الذي لا يستطيع أن يرى المجتمع إلا بعيون "الأكثرية والأقليات" وهو لا يدرك أن الدولة الحديثة التي تقوم على المواطنة، والتي تحيل أبنائها إلى مخلوقات دولة والى مواطنين لا وجود فيها لمفهوم الأكثرية ولمفهوم الأقليات، بل أن مفهوم الأقليات عدا عن كونه مسيئا على صعيد السايكولوجيا الجمعية للمجتمع وخصوصا لمن ينظر إليهم ويصنفون ويعاملون بقسوة على أنهم "أقليات"، فهو يتعارض قانونيا ومنطقيا وسوسيولوجيا مع مفهوم المواطنة وبالتالي مع مفهوم الدولة الحديثة.
في الدولة الحديثة التي هي الدولة القومية Nation State والتي بدأت بالتشكل بدءأ من القرن الثاني عشر وتسارع تشكلها مع تطورات القرن السادس الذي شهد الثورة على دولة الكنيسة، وانهيار الإقطاع الديني والسياسي والاقتصادي، ما مهد للتصنيع والعلمنة وظهور الخط الفاصل بين الحيز العام والحيز الخاص، وتطور الرأسمالية وظهور الآلة والتصنيع. في هذه الدولة القومية الحديثة، صار التشارك في الأرض والانتماء لها هو أساس قبول المجتمع بالفرد، وهو أساس تنظيم الحقوق والواجبات. فبدلا من التشارك في نفس رابطة الدم أو نفس رابطة الطائفة للحصول على الحقوق والقيام بالواجبات، صار التشابه في التشارك بالأرض أو الإقليم Territory هي الذي يحدد التشابه في الحقوق والواجبات. وفي الأردن على سبيل المثال، لا يتحدث الدستور إلا عن "الأردنيين"، الذي هم حاليا عشرة ملايين نسمة يتشاركون الانتماء إلى نفس الإقليم او الأرض، ولا ترد في الدستور أي حديث او تعريف لأي تجمع من الأشخاص يتشاركون روابط غير رابطة الانتماء للإقليم او الأرض. فالأردنيون هم ليسوا مجموعة من الناس الذين يتشاركون علاقات الدم، أو يتشاركون علاقات الطائفة أو علاقات الدين بل هم أناس يتشاركون الانتماء للأرض ذاتها التي هي "الأردن".
وفي الدولة الحديثة التي هي الدولة القومية، فان الدولة قائمة على مبدأ "التجريد" Abstraction الذي تمارسه الدولة وأجهزتها تجاه المواطنين، كما يمارسه المواطنون تجاه الدولة. فالدولة لا تتعرف على أبنائها باعتبارهم يوسف وعليا وسعيدا بل باعتبارهم كلهم مواطنين، وكلهم عبارة عن ذرات متساوية لا يهمها لون بشرتهم، ولا يهمها نوع دينهم وتدينهم، ولا يهمها نوع روابطهم العشائرية، فهم ذرات حقوقية متساوية على صعيد الحقوق والواجبات والفرص، لا تتعرف الدولة لمخلوقاتها باعتبارهم كتلا ومجموعات عشائرية او مناطقية او طائفية، هم مجرد ذرات حقوقية وقانونية متساوية ومتشابهة ولا تعرف الدولة ما هي الفروقات العشائرية والطائفية والدينية بين كل واحد منهم والآخر.
وحين يتم مثلا تحديد الرواتب أو الإعانات أو بناء شبكات الطرق أو تسمية شاغلي المواقع والمناصب، أو يتم تحديد الواجبات والفرص الانتخابية فإن الدولة تحددها للجميع باعتبارهم مواطنين وليس بالاعتماد على نوعهم الديني او اللغوي او الدموي(العشائري)، فالدولة تتعرف على مخلوقاتها دون أن تعرفهم عيانيا أو باعتبارهم كائنات عيانية Concret وهي تعرف بالتالي اسم كل واحد منهم ونوع دينه ولون بشرته، بل هم بالنسبة لها كائنات مجردة. ففي الأردن مثلا، يعرف الدستور الأردني ويتعرف على مخلوقات الدولة من خلال تعريفهم بصورة مجردة، فهم أردنيون، ولا يعرفهم الدستور مطلقا بصورة عيانية، فهم في الدستور ليسوا كتلا عشائرية او مناطقية او طائفية، ولا ترد في الدستور أي تحديدات دينية او مناطقية او عشائرية او لغوية لهؤلاء العشرة ملايين مخلوق الذي يعنيهم الدستور ويتحدث عنهم.
وكما تنظر الدولة إلى مخلوقاتها بصورة قائمة على التجريد، تنظر مخلوقات الدولة أيضا إلى الدولة وفاعليها وصانعي القرار فيها بصورة مجردة، فالوزير الذي يوقع القرارات هو مواطن ولا ينظر الناس إليه بصورة عيانية، ولا يجهدون أنفسهم بمحاولة تحديد اسمه، وصفاته، ولون بشرته ونوع دمه القرابي ونوع تدينه وطائفته الدينية. فالمجتمع يرى في الوزير مواطن مشابه لكل المواطنين الآخرين، وهو مجرد نسخة من الذرات المواطنية التي تتشارك معه الوطن نفسه. وهي لا ترى في الوزير ابنا لطائفة أو لعشيرة او لمنطقة جغرافية ضيقة.
وعليه، ففي البعد الحقوقي فان الدولة الحديثة تتنافى مع فكرة الأكثرية والأقليات، فلا وجود لأقليات في الدولة الحديثة. فالمجموعات اللغوية والدينية والاثنية والقومية هي كلها متساوية على صعيد المواطنة والمواطنية، اي على صعيد الحقوق والواجبات المجتمعية والسياسية. فلا وجود لأكثرية أو أقلية على صعيد إدارة الدولة وعلى صعيد البنى الحقوقية والقانونية، والمفهوم يختفي تماما على صعيد الحقوق وحقوق المواطنة وعلى صعيد التشريعات.
ربما من المثير للانتباه إلى انه وفي الدولة الحديثة التي نعيش بعض نماذج منها في أوروبا الغربية وفي أماكن أخرى من العالم، فإن لفظة "اقليات" بصيغة الجمع لا ترد مطلقا في كل الخطاب السياسي المتعلق بإدارة الشأن العام، وان الكلمة التي ترد وتتردد هي كلمة أقلية بصيغة المفرد، وهي ترد دائما في سياق التمييز بين أكثرية سياسية تحكم وأقلية سياسية أخرى تعارض وتجلس في موقع المعارضة. ففي بريطانيا مثلا لا تستخدم كلمة أقلية إلا للإشارة إلى حزب العمال حين يكون في موقع المعارضة لأنه يملك أقلية من المقاعد في البرلمان البريطاني. وبهذا المعنى، فان مصطلحات الأكثرية والأقلية لا يظهران كي يتم التمييز بين مخلوقات الدولة على أساس أكثرية بروتستانتية مقابل أقلية كاثوليكية، فالجميع متساوون ومتشابهون على أساس المواطنة وبالمعنى الحقوقي، ولكن تظهر فكرة الأقلية والأكثرية حينما يتعلق الامر بالتيار السياسي الذي يقود المجتمع الكبير والذي انيطت به واجبات تطوير السياسات والاستراتيجيات لتحقيق مزيد من المساواة في المواطنية والحقوق والواجبات بين أعضاء المجتمع الواحد.
وفي الدولة العالم ثالثية، يحدث الخطر وتحدث الجريمة حينما يتم استخدام مفهوم الأقلية والأكثرية التي تتعلق بالأصل بتحديد هوية من يجلس في الحكم ومن يجلس في المعارضة ليمارس السياسة والإدارة، فيتم استخدام المفهوم على صعيد المواطنة والمواطنية أي على صعيد تحديد الحقوق والواجبات المواطنية التي ينبغي أن يتمتع بها كل فرد. ففي الدولة الحديثة لا مجال للحديث عن أكثرية وعن أقليات، لان الجميع متشابهون ومتساوون باعتبارهم كائنات ومخلوقات حقوقية.