شهادة على عصر نهضة خدمات الصحة العامة في الأردن
د.سعد الخرابشة
19-01-2021 11:31 AM
لقد كانت برامج الصحة العامة والرعاية الصحية الأولية بشكل خاص يوما ما في الأردن من أنجح البرامج في دول إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط، فجميع المؤشرات الصحية المتعلقة بمكافحة الأمراض السارية مثلا سواء من حيث استئصال بعضها أو القضاء على البعض الآخر أو السيطرة على حدوثها ومنع توطنها أمثلة على ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة فالأردن من أوائل الدول في المنطقة وربما في العالم من تمكن من القضاء على مرض الملاريا ومنع توطنه منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي رغم استمرارية وجود البعوض الناقل للمرض في عدة مناطق وخاصة في مناطق الأغوار ورغم أن الأشخاص خازني العدوى يفدون الى البلد من عدة مناطق لا زالت موبوءة في العالم.
وتمكن الأردن أيضا من السيطرة التامة على منع حدوث أوبئة الكوليرا منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي وكان من أوائل دول الإقليم الذي استأصل أمراض الجدري والطاعون وشلل الأطفال كما وشهدت أمراض الطفولة القاتلة الأخرى انحسارا شديدا منذ أوائل تسعينات القرن الماضي كأمراض الدفتيريا(الخانوق)والسعال الديكي وكزاز حديثي الولادة والحصبة والتهاب الكبد الوبائي نتيجة تطبيق برنامج التطعيم الوطني الموسع في عام 1979. كما وشهد برنامج مكافحة مرض السل تطورا ملفتا حيث وصل معدل حدوثه بين الأردنيين إلى أدنى النسب مقارنة مع دول الإقليم وحتى الدول المتقدمة في العالم. كما وشهدت العديد من المؤشرات الصحية الأخرى تحسنا كبيرا كمعدلات وفيات الأطفال الرضع والأطفال دون الخمس سنوات من العمر ومعدل الوفيات الخام ومعدل وفيات الأمهات والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال لحصرها جميعا.
سقت هذه المقدمة لأدلل على الدور الريادي الذي قامت به وزارة الصحة عبر عقود زمنية خلت من خلال التركيز على الجانب الوقائي المتمثل ببرامج الصحة العامة والرعاية الصحية الأولية وهو الجانب الذي تميزت به وحفظت البلد من مخاطر صحية كبيرة لازالت تهدد شعوبا كثيرة في المنطقة والعالم فعملت منذ أوائل التسعينات على تأسيس وتطوير برامج الرصد الوبائي للأمراض السارية وغير السارية وطورت برامج التطعيم وأنشأت سجلات وطنية ناجحة لرصد أمراض السرطان وأسباب الوفيات ووفيات الأمهات والصحة الإنجابية وصحة البيئة وغيرها الكثير. ربما لم تتميز الوزارة في مؤشرات الخدمات العلاجية كغيرها من مؤسسات الوطن الأخرى لكنها استمرت لأن تكون الملاذ الرئيسي لجميع المواطنين والمقيمين على ثرى هذا البلد الطيب بتقديم خدمات علاجية مقبولة وميسرة بأسعار مدعومة وأقل من الكلفة.
لا غرابة بأن يكون تميز الوزارة منصبا بشكل أساسي على الجوانب الوقائية فهذه مهمتها الأساسية أما الجوانب العلاجية فهنالك بقية مكونات القطاع الصحي لديها الفرص لأن تتميز بها.
إن الإنجازات العظيمة التراكمية التي تحققت في مجال تحسن المؤشرات الصحية التي تعكس نجاح دور البرامج الوقائية المشار اليها آنفا لم تأتِ من فراغ وإنما كانت ثمارا لجهود كبيرة ومقدرة لأجيال من الرواد الذين بنوا برامج الصحة العامة والوبائيات والرعاية الصحية الأولية عبر العقود العديدة الماضية وانتهز هذه الفرصة لأقدم شهادة متواضعة لهذا العصر حيث تشرفت مع العديد من الزملاء في العمل بهذه البرامج منذ أواسط سبعينات القرن الماضي وأقول أنه لغاية أواسط الثمانينات لم يتجاوز عدد أطباء الصحة العامة في وزارة الصحة وربما في الأردن عشرين طبيبا في أحسن تقدير حيث لم يكن يحظى هذا التخصص بالاهتمام سواء من قبل الأطباء أو حتى من قبل وزارة الصحة. وفي بداية التسعينات تنبهت الوزارة لهذه المشكلة وأنشأت برنامج دبلوم في علوم الصحة العامة مدته سنة بدعم فني ومالي من منظمة الصحة العالمية استمر لما يقرب من عشرين عاما وخرج بحدود مئتي طبيب وتمكن هذا البرنامج من رفد مركز الوزارة ومديريات الصحة في المحافظات بأطباء مدربين بشكل جيد استطاعوا أن يحققوا تغطية مقبولة جدا للنقص الحاد في هذا التخصص ثم بعد توقف هذا البرنامج أنشأت الوزارة برنامجا آخر وهو برنامج الوبائيات التطبيقي بالتعاون وبدعم من مراكز السيطرة على الأمراض الأمريكية(CDC) حيث يقوم هذا البرنامج على تدريب الأطباء لمدة عامين على الجوانب النظرية والتطبيقية الميدانية في استقصاء الأمراض والأوبئة وهنالك العشرات من خريجي هذا البرنامج ما زالوا يرفدون الوزارة بالخبرة العلمية المتميزة. كما وقامت الوزارة بعمل تشبيك مع المجلس العربي للاختصاصات الطبية لتمكين خريجي برنامج الدبلوم وبرنامج الوبائيات التطبيقي من التقدم لامتحانات المجلس وحصل معظمهم على شهادة البورد العربي في هذ التخصص. ولاحقا قامت الوزارة باستحداث برنامج إقامة لطب المجتمع (الصحة العامة) مدته 4 سنوات يستطيع بنهايته الطبيب التقدم لامتحان المجلس الطبي الأردني والحصول على شهادة البورد الأردني في الصحة العامة.
لا بد وأنا أسرد هذا التاريخ من الإنجاز من ذكر فضل بعض الجهات والأشخاص الذين دعموا وزارة الصحة ومنهم منظمة الصحة العالمية ممثلة بمعالي الدكتور حسين الجزائري المدير الإقليمي الأسبق لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط الذي كان محبا للأردن وأحبه الأردنيون ولمنظمة الأمم المتحدة للطفولة(يونسيف) وللوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ولمراكز الوقاية من الأمراض الأمريكية (CDC) فلجميعهم الشكر والعرفان في دعم البرامج الصحية وتطوير قدرات الكوادر الصحية في بلدنا العزيز.
عطفا على ما تقدم وفي ضوء أن أعدادا كبيرة من أطباء الصحة العامة الرواد الذين بنوا البرامج الصحية قد أحيلوا على التقاعد بدفعات متتالية وبدون وجود خطة إحلال مدروسة ومناسبة فإن هنالك خشية على هذه البرامج من التعرض لنكسات قد تؤدي إلى خسارة بعض الإنجازات التي تحققت فاستمرار وجود هذه الخبرات في الوزارة أمر ضروري لتدريب الأجيال الجديدة وللحفاظ على ذاكرة المؤسسة فالسياسة المتبعة في الوزارة منذ بضعة سنين هو الإحالة على التقاعد عند بلوغ السن القانوني دون الأخذ بالاعتبار الفراغ الذي ينتج عن ذلك من نقص هذه الكفاءات في مختلف مديريات وبرامج الوزارة فهنالك عشرات الأطباء قد أحيلوا وهم في قمة العطاء ويستطيعوا أن يعطوا لسنوات عديدة قادمة فالعمر ليس مقياسا للعطاء فهنالك أساتذة عمالقة في الجامعات تتجاوز أعمارهم العقد السابع من العمر وهنالك وزراء ورؤساء وزارات تجاوزوا السبعين من العمر ويعملون بكفاءة عالية وربما أكثر من بعض الشباب.
في ضوء النقص الحاد في اختصاص الصحة العامة في الوزارة وخاصة في مجال الوبائيات وفروع الصحة العامة الأخرى ألم يحن الوقت للاحتفاظ بما تبقى من هذه الكوادر في الوزارة للحفاظ على الذاكرة المؤسسية ولحين إعداد أجيال جديدة مدربة وقادرة على الإحلال مكان الأجيال القديمة. لقد أعطت القوانين والأنظمة الحق للحكومة ولوزير الصحة أن يمدد سنوات الخدمة للكوادر الفنية التي لا غنى للوزارة عنها بل وأعطته الحق بشراء خدمات هذه الكوادر على غرار ما يتم من شراء خدمات الأطباء السريريين والمعمول به في الوزارة منذ عدة سنين. أليس نحن الآن أحوج ما نكون لاتباع هذا النهج أكثر من أي وقت مضى ونحن نتعرض لجائحة عالمية يعتبر أطباء الوبائيات والصحة العامة هم أعمدة السيطرة والمكافحة لها، كيف يستقيم أن ننهي خدمات هذه الخبرات أو نهمش دورهم ونحن في عز الأزمة.
أعول كثيرا على معالي وزير الصحة بأن يكلف فريق لتقييم النقص الحاد في أطباء الصحة العامة في المركز والميدان ووضع الحلول العاجلة لمعالجة هذا النقص مقترحا أن يتم الاستفادة مرحليا من خدمات بعض المتقاعدين الذين لا زالوا قادرين على العطاء.
وددت أن أقدم هذه الشهادة علها تفيد من يعنيه الأمر.
والله من وراء القصد