امتطيت صهوة كمامتي .. وشددت السرج وخيوط القناع .. بحيث غطت ملامح وجهي والذي لم يبق مكشوفاً منه للعيان سوى العينين واللتين نفرتا من اللوك الكوروني الجديد الذي تلبسني عنوة .. ثم دفنت اصابعي العشرة في لحدين من المطاط .. ويممت وجهي شطر وسط البلد لشراء بعض الحاجيات!!
وما ان ركنت سيارتي حتى اعترضني شاب يلبس كمامة بلاستيكية ضخمه وتحتها أخرى صغيره زرقاء اللون .. وقال بلهجة من يعرفني منذ زمن بعيد: هل عرفتني؟! فقلت: كيف لي أن اعرفك يا معود وانت مغطى بكمامة "جامبو" وأخرى مسانده!! فضحك وقال: ألا تتذكرني؟!
فأجبت مازحاً: يا رجل انا لا أتذكر عشاي البارحة فكيف تريدني أن أتذكر رجلاً متخفياً بكمامتين؟ لذلك اختصر الطريق وقل لي من انت؟ فرد على الفور: انا أتذكرك منذ مجيء الكورونا الى البلد!! فقلت: فال الله ولا فالك يا شين!! واستدرك يقول: انا اقصد ان مقالك الذي كتبته قبل زمن بعيد عن الوجوه والأقنعة يذكرني بك .. وأود ان اذكرك بأننا التقينا قبل فترة بعيدة انت وانا في مدينة الزرقاء وبالتحديد في مقر المرشح للانتخابات النيابية صديقك المرحوم جهاد جباره .. عندما جئت انت من عمان تواسيه وتساعده حينما اقتلعت الرياح الشديدة يافطاته .. وسلمتك يومها دوسيه كبيره تتضمن بعض المقالات التي كتبتها في (شيحان) والصحف اليومية والأسبوعية من بينها مقالات عن الكواكبي وسليمان خاطر والنيزك الكنعاني ومقال الوجوه والأقنعة .. فقلت: لقد وجب الشكر لك الان على ذلك!!
حاصله .. أعاد الرجل والذي يعمل في مجال توزيع الصحف ولا يفوته حرف في مجال الاخبار والمقالات والتحليلات السياسية .. أعاد الى ذهني حقبة كانت الصحافة وبالتحديد الأسبوعية منها تحظى بسقف حرية مرتفع يمكن تصنيفه ضمن تقدير (جيد)! .. وليس من الانصاف استعراض تلك الحقبة دون أن اذكر بالتقدير ذلك الطبيب الذي ترك السماعة او "الصناته" بالمعنى العامي الدارج والمريول الأبيض .. واستبدلهما بالقلم "وصناتة" الحرف فأبدع أيما ابداع في مجال رفع سقف حرية الصحافة مداميك عديده!!
وهذا الطبيب والذي اول حرف من اسمه (الدكتور رياض الحروب) ما زلت عاتباً عليه عتباً شديداً يقف على تخوم الغضب!! فقد نصب لي كميناً يعاونه في ذلك صديقي اللدود وتوأم الروح المرحوم مؤنس الرزاز .. وحبساني في زاوية تقع في حارة (الادب الساخر) ببلدة (الصحافة) كتب على عتبتها عنوان (عساك بخير) ظللت حبيسها في (شيحان) عدة أعوام بعد ان اخذا مفتاح تلك الزاوية!! ووضعني الصديقان اللدودان (الحروب والرزاز) ما غيرهما في مواجهة مع قلمي الذي يذبحه صمتي .. مثلما يذبحني أنا بوحه!! وكنا نتبادل اللوم انا وقلمي بهذا الصدد يومياً!!
المهم عقد الرجلان هدنة بيننا، انا وقلمي، فأصبح قلمي يجرني الى البوح الحاد والساخن تارة وانا ارد بالمثل واسحبه الى الهدوء والتريث الدافئ تارة أخرى!! وظللنا على هذا المنوال طيلة تلك السنوات العديدة!!
وسأتحدث عن هذه الواقعة وغيرها في عالم الصحافة فيما بعد، لكني الساعة سأعرض جانباً من المقال، موضوع البحث والذي يتحدث عن الوجوه والأقنعة اذا اسعفتني الذاكرة في استعادة بعض مفاصله والتي تتضمن حواراً جرى قبل ثلاثين عاماً بين العبد الفقير لله كاتب السطور وبين (بيوجي) أي ماسح احذية صادق الطوية .. وكنت أقوم بدور مستمع يجيد فن الاصغاء فيما تولى هو دور الراوي أو المتحدث ذرب اللسان!!
كان ذلك قبل حوالي ثلاثين عاماً .. عندما ذهبت حينها الى كشك الصديق حسن أبو علي .. وبعد أن طافت عيناي بشغف بالغ على محتويات الكشك من كتب نادرة ونفيسة .. وبعد ان ناولني ما ادخره لي من كتب ثمينة وجدتني احشو "الغنيمة" في كيسين ايقنت بعد الابتعاد عن الكشك مسافة قصيره انهما ثقيلان ولا طاقة لي بحملهما مسافة طويله .. فوجدتني الوذ، والحالة هذه، الى احدى الدخلات الظليلة هرباً من القيظ والحر .. والارتياح قليلاً قبل ان استنجد بتكسي يوصلني انا "وعتلة" الكتب التي تأبطتها الى البيت!!
ووقعت عيناي، في تلك الدخلة، على عدة كراسي صغيره مصنوعه من القش لم اتبين ألوانها بسهوله للوهلة الأولى .. والكراسي مملوكة من قبل ماسح احذيه (بويجي) جلس خلف صندوق البويا وهو ينطر" الزبائن .. وقد زاغت عيناه في حركة دائبه ترقب وجوه المارة!! فيما راحت يداه تحكمان السيطرة على وليّ نعمته (الصندوق)!!
فاستأذنته بالجلوس ووافق .. ورحب بي ظناً منه انني زبون "دسم" وقبل ان القي بالكيسين ارضاً داهمني الرجل بالسؤال: هل تريد ان تمسح حذاءك؟ فقلت له: شكراً انا اريد الجلوس لبضع دقائق اذا لم يكن لديك مانع! وانا بالمناسبة أمسح حذائي بيدي .. وهذه عادة اخذتها من صديق لي من الجزائر منذ مدة طويله وما أزال اتعاطاها!!
ولا ادري فيما اذا كان جوابي قد اقنعه أم لا .. لكنه على اية حال لاذ بالصمت ليترك العنان لعيني التي اخذت ترقب الصبغة البدائية التي "ساحت" على شعره الفضي ففضحت بذلك محاولة ساذجة لإخفاء فعل السنين القاسية وقهر الزمان الذي لا يرحم!!
وقلت في محاولة لقطع حبل الصمت الذي ران على الحوار .. قل لي يا عم: كيف حالك وصحتك؟ فرد قائلاً الحمد لله صحتي جيده .. وحالي مستوره!! ووجدتني أنجذب للحديث معه أكثر فأضفت: صار لك زمان .. يا عم في هذا الكار؟!
وظننت أنه لم يسمع سؤالي حين ضرب بكفيه .. فاحدث صوتاً قوياً ثم رفع شارة النصر .. (على ندرة تلك الشارة في عالمنا العربي) .. لاكتشف بأن شارة النصر التي غبطته عليها ما هي الا إشارة بأصبعيه السبابة والوسطى للجرسون في المقهى المجاور من اجل احضار (اثنين شاي)!!
والتفت اليّ ثانية ثم قال: من اين تريدني ان أبدأ؟! لقد اضعت عمري في هذه المهنة طيلة ثلاثة وثلاثين عاماً!! واستطاع هذا الصندوق الصغير ان يعيل عائلة تركها والدي في رقبتي .. وكبر افرادها جميعاً أمام ناظري!!
وكبر هميّ ايضاً!! وها أنذا كما ترى أحاول محاصرة قهر الدهر بالصبغة .. والجوع بالبويا!! والحمد لله على كل حال فقد درّست اخواني واخواتي .. ونسيت نفسي!! وأطعمتهم احسن الطعام فيما اكتفيت انا بالضروري!! وحافظت على قطعة أرض تركها والدي ولم افرط بها!! باختصار لم ير اخوتي واخواتي مني سوى البسمة والوفاء والصبر رغم ان داخلي كان مرجلاً يغلي بالوجع والهم والمسؤوليه الثقيله!!
وظللت اعمل في هذا الكار الى ان تخرج اخوتي واخواتي من الجامعات واصبحوا عوناً لي ..وسنداً اعتز بهم .. وارى في نجاحاتهم ثمرة لتعبي وشقاي!!
وتنهد الرجل .. ثم اضاف .. اتصدقني يا اخي بانني لا اعرف وجوه الناس خلال معاناتي طيلة تلك السنوات القاسيه!! لكنني احفظ عن ظهر قلب جلود ووجوه الاحذيه التي لم تتبدل ألوانها طيلة تعاملي معها عبر نيف وثلاثين عاماً من الشقاء والصبر والانتظار!! فالحذاء البني ظل بنياً .. والحذاء الأسود ظل على حداده .. والأبيض بقي على صفائه!! والهجين ظل هجيناً.. ولكن ويا للاسف فان وجوه بعض الناس تتغير .. ومواقفهم تتبدل ايضاً .. وسحنهم تكلح!! وعواطفهم نحو بعضهم البعض تهتريء!!
وها أنا، كما تراني اتمترس، صابراً، وراء صندوق البويا .. ومحافظاً على تعاملي مع (نصف النعل) الذي لم يتبدل لأني اراه اكثر ثباتاً .. ووفاءً وبشاشة من بعض الوجوه التي تمتهن النفاق .. والدهلزة .. والكذب .. وتحترف الوصولية واللف والدوران والتملق سبيلاً للوصول الى الغايات الملتويه في نفوسهم المريضه!!
هكذا تحدث (البويجي)!! وها أنذا انقل ما قاله هذا الرجل الصادق دون تعليق!!
واذا كان لابد من تعليق واحد على ذلك فهو أن بضاعة النفاق الفاسده يزدهر سوقها وتسود حين يرى المجتمع باذنيه ..لا بعينيه!! وحين يرى المسؤول ما يحب أن يسمع .. لا ما هو كائن فعلاً !!
وفي الختام أقول بالله المستعان للقضاء على افة النفاق التي تشبه "فريط" الحنظل .. الذي يبدو في الظاهر اخضر اللون .. لكن مذاقه مر .. وثمره قاتل كحنظل الحنظل!!