كتب جورج بوش الإبن، في مذكّراته "قرارات مصيرية" (2012)، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، أخطره، في أوائل سبتمبر/ أيلول 2007، بموعد ضربة إسرائيلية لموقع سوري في دير الزور، من دون أن يطلب مشورته، أو تغطيةً سياسيةً أميركيةً لها. ولمّا نصحه بوش بأن تعمل الولايات المتحدة على استصدار قرار من مجلس الأمن بشأن القدرات النووية السورية، ليسوّغ الضربة، ردّ أولمرت بالرفض، وأنه يُخبره ولا يستأذنه، فهذا الأمر "يخصّ إسرائيل وحدها". تمّت الضربة بعد أيام. وفي مارس/ آذار 2018، رفعت دولة الاحتلال السرّية عن استهدافها في تلك الواقعة منشأة مفاعل نووي تطوّره دمشق سرّاً. أما الغارات الإسرائيلية التي استمرّت ساعة، على موجتين، ثانيتهما 18 غارة، فجر الأربعاء الماضي، على مواقع في شرق سورية، فإن واشنطن تسرّب أنها قد ساعدت تل أبيب في تنفيذ هذه الغارات بمعلومات استخبارية، ومن ذلك أن المواقع التي ضُربت مستودعاتُ أسلحةٍ إيرانية. وأخذاً بنكتة دريد لحام في "ضيعة تشرين" عن فتح الراديو على لندن لنعرف ماذا يحدُث عندنا، ليس من رجاحة العقل أن يكتفي واحدُنا بخبر وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) عن قيام العدو الإسرائيلي بعدوان جوي على مدينة دير الزور ومنطقة البوكمال، وأنه "يتم حالياً تدقيق نتائج العدوان"، فالتقارير الإخبارية لم تطيّر فقط أعداد القتلى الذين أفيد بأنهم زادوا عن الخمسين، بين سوريين يتبعون النظام وإيرانيين و"زينبيين" باكستانيين و"فاطميين" أفغان، وإنما أيضا أن عشاء في مطعم إيطالي في واشنطن جمع بين وزير الخارجية الأميركي، بومبيو، ورئيس "الموساد"، يوسي كوهين، في الليلة السابقة للعملية العسكرية الإسرائيلية الأعنف منذ سنوات في سورية. وإذا كان مرجّحاً أن الصديقيْن تداولا، بعض الوقت، في أمر الضربة المقرّر موعدها مسبقاً، فمستبعدٌ أن يكون ترخيصٌ أميركيٌّ بها قد أعطي في المطعم.
تُحسَب ضربة دير الزور إبّان أولمرت بوش ضمن اعتداءاتٍ إسرائيليةٍ سبقت شرارة الثورة والحال الدامي في سورية الراهنة، وليس من عددٍ موثّق لهذه الاعتداءات منذ 1982، غير أنه ليس منسيّاً أن أولاها كانت على فصيلٍ فلسطيني في 2003، وفي الوسع احتساب تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق قصر بشار الأسد في اللاذقية صيف 2006 ضمنها. أما اللواتي لا يتوقف عنها سلاح الجو في دولة الاحتلال، بعد الثورة، فتُخبرنا "جيروزاليم بوست" أنها نحو ألف منذ 2013. وعلى ما تنقل الصحافات العبرية، فإن إسرائيل اعتادت أن تنفّذ ضربة كل ثلاثة أسابيع، لكنها تنوي إنجاز ضربةٍ كل عشرة أيام. وإذ تستثير هذه الأرقام أسىً غزيرا في نفوسنا، نحن الذين نقيم على مناهضة النظام القاتل، الفاسد المستبد، غاصب السلطة في دمشق، فإن فضولاً فينا بشأن ما تُحدثه في نفوس الذين يشايعون النظام الموصوف هنا، ولا يغادرون التغنّي بممانعته، وهو الذي نشتهي يوماً أن يردّ، ولو بمعيّة مليشيات إيران وحرسها الثوري بين ظهرانيه، الصاع صاعاً واحداً على أي اعتداء إسرائيلي.
ما الذي أرادته إسرائيل وإدارة ترامب بومبيو من هذه الوجبة الصاروخية البالغة العنف في بادية شرق سورية؟ لا داعي لإجهاد الذهن في التفتيش عن رسائل تبعثها الحليفتان هاتان إلى إدارة بايدن المرتقبة وإلى إيران (وإلى من يريد أن يتلقّاها، لا بأس)، فالمسألة أكثر بساطةً، لأن مثيلاتٍ لضربةٍ كهذه قد تتكرّر لاحقاً، في غضون إقامة بايدن في البيت الأبيض رئيساً، موجزها إنه لا صلة لحسابات القوة الإسرائيلية باعتباراتٍ مثل التي يفترضها بعضُنا عن رسائل إلى هؤلاء أو إلى أولئك، وإنما هي حساباتٌ موزونةٌ بمعايير تقوم على استضعاف الضعيف أكثر وأكثر، فنظام غاز السارين، غاصب السلطة في دمشق، لا يستحقّ في الاعتبارات الإسرائيلية غير إهانته بمزيد من الإهانة، حوالي دمشق وفي درعا وفي كل مطرح، وقد استحقّها هذه المرّة في بطاح بادية شرق سورية، في دير الزور والبوكمال والميادين.
كتب مدير المخابرات المركزية الأميركية الأسبق، جورج تينيت، (في مذكّراته)، إن بقاء نظام الأسد أفضل من العمل على إسقاطه. وهذا بالضبط هو الموقف الإسرائيلي، مضافاً في تفاصيله إن بقاء النظام المذكور ضعيفاً ثم أضعف، وإنْ بوجود الزينبيين والفاطميين عنده، أفضل لإسرائيل. وعندما يخزّن أسلحة، لحزب الله أو لغيره، منحتها إيران أو غيرها، في دير الزور أو غيرها، فينبغي ضربه.. هذا موجز القصة ومختتمها.