في اتجاه معاكس لرائعة الأديب الراحل الطيب الصالح، يبدو أن البوصلة تؤشر إلى مواسم الهجرة للجنوب؛ هناك في الخرطوم، حيث الضيافة الأصيلة وديدن التواصل مع الوطن في "مضافة" بيت الأردن.

تراه في حراك دائم؛ يستقبل وفودا ويولم لأخرى. يخفف وطأة الغربة عن عشرات الأردنيين، وكأنهم لم يغادروا الوطن. يعمل في ظروف استثنائية، وسط مناخ قاس متنقلا بين مناسبة رسمية وأخرى اجتماعية عبر ولايات السودان، دون أن يسهو عن التواصل مع كل أردني يطأ هذه الأرض.

مسلحا بابتسامة خفيفة ومسافرا بين حبّات مسبحته، يتواصل السفير منذر قبّاعة وسائر أعضاء البعثة الأردنية على مدار الساعة مع أبناء الوطن بعيدا عن محددات الدوام الرسمي.

ما إن ودّع الأسبوع الماضي وفدا وزاريا بعضوية الصديقين محمد أبو حمّور ومحافظ البنك المركزي أميّة طوقان، حتى انتقل "أبو السعيد" للترحيب بالزملاء القادمين من الصحف اليومية لتغطية موسم الانتخابات. ظل إلى جانب هذا الفريق حدود منتصف الليل حتى اطمأن على ترتيبات الإقامة ومستوى خدمات الفندق المقيمين فيه.

بين هذا وذاك، تابع السفير النشط تدشين مشروع "المروة"، أحد أكبر سدود إفريقيا بسعة 12 مليار متر مكعّب، إلى جانب محطة توليد كهرباء إستراتيجية هيدروليكية، في الولاية الشمالية.

يسهّل حياة عشرات الزوار ومستثمرين في بلد يمتلك طاقات هائلة غير مستغلة. يقدر بمليار و200 مليون دولار حجم استثمارات الأردنيين بالسودان في عدة قطاعات من صناعة الحديد مرورا بالإسمنت وصولا إلى العديد من الوكالات التجارية. مشروع "البشائر"، الذي تديره القوات المسلحة، يسجل نجاحات متسارعة بعد سنوات من الجمود عطّلت فرص الاستفادة من مساحات شاسعة، زراعيا وثروة حيوانية.

السفارة ومنزل رئيس البعثة مفتوحان لمن يطرق الباب.

يفتخر الأردني حين يسمع من السودانيين أن تشخيص المرض في مستشفيات المملكة يشكل بالنسبة لهم نهاية المطاف؛ قبل أن تبدأ مرحلة العلاج. فالكلمة الفصل بالنسبة إليهم تصدر عن أطباء الأردن، المرجعية في الطب.

حين وصلت إلى الخرطوم أواخر الشهر الماضي، اقترح الصديق وابن العم رائد حتر إلقاء التحية على "أبو السعيد". خلال دقائق من الاتصال به، كنا داخل مكتبه البسيط، لنجد استعدادا لعرض المساعدة على خطه المباشر في أي وقت.

حتر، مدير مكتب مدير عام المنظمة العربية للتنمية الزراعية، يوفر هو الآخر "أجواء وطن" لضيوف السودان، من خدمات لوجستية، تنقّل وعزائم. مدير عام المنظمة، الصديق العماني الدكتور طارق الزدجالي ما يزال يحمل الشوق والحنين لهذه البلاد منذ أكمل دراسته العليا في جامعتها الأم قبل ربع قرن.

رئيس البعثة الدبلوماسية وسائر الأردنيين في الخرطوم يكسرون حدّة الغربة في مدينة الأبيّض (ولاية شمال كردفان)، على الطريق إلى دارفور، حيث انهمكت لثلاثة أسابيع في تدريب 20 صحافيا على تغطية الانتخابات بحيدة واحتراف. خلال العطلة الأسبوعية، كنت أطير إلى العاصمة، لأجد أطباق المنسف وأجواء الوطن، لتنسف الريجيم القسري في تلك البلدة البعيدة.

فا.. شكرا "أبو السعيد"، إذ أحضرت الوطن إلينا.

***الصورة للسفير الاردني في السودان منذر قباعة