نالت حكومة بشر الخصاونة ثقة مجلس النواب الأردني، بواقع 88 صوتاً من أصل 130 عضواً، بعد جلسات الخطابات النيابية المعتادة، ولكن في ظل قناعة لدى الجميع بلا استثناء، حتى النواب أنفسهم، أنّ الثقة تحصيل حاصل، وأنّ المجلس الحالي، على الرغم من أنّه يضم مائة وجه جديد، فإنّه لا يحمل جديداً على صعيد رد الاعتبار لصورة المجلس نفسه، أو إعادة بناء التوازن بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية.
إذاً إعادة عرض لفيلم مكرّر مملّ. هكذا تعاملت شريحة اجتماعية واسعة من الأردنيين مع جلسات الثقة وخطابات النواب، لكن ما زاد المشهد رداءةً وبؤساً ظواهر تستحق أن يتم الوقوف عندها جيّداً وعميقاً، والأردن يخطو نحو افتتاح مئوية الدولة، ويستعد لاحتفالات وطنية كبيرة!
الظاهرة الأولى طغيان الهويات الفرعية والجهوية بصورة سافرة أحياناً، ومبطّنة في أحيان أخرى، على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وما تحمله من قيمٍ تشمل الجميع، فأغلب النواب عبّروا عن مناطقهم، ودافعوا عن مصالح قواعدهم الاجتماعية بصورةٍ أكثر إلحاحاً وحرصاً من اهتمامهم بالشأن الوطني العام، وأكثر من ذلك برزت ملامح لخطاباتٍ داخليةٍ، تحمل مظلومية هذه الهويات والفئات، كما بدا بوضوح في خطابات أغلب المحافظات، أو الشرائح التي تشعر بالتهميش سياسياً، كالرصيفة وعمّان الشرقية والمخيمات المعروفة.
الظاهرة الثانية، تغول الجانب الإنشائي المبتذل على خطابات أغلب النواب، والفجوة باتت واضحة بين حديث المزايدات والكلام الذي يخاطب العواطف والمواقف الفعلية للنائب، فيما لم يجد الشارع الذي يكتوي بالبطالة والفقر والحرمان والخشية من تداعيات كورونا وارتفاع الأسعار أي كتل نيابية أو خطابات فردية تقدّم وصفاتٍ مقنعة عملية وواقعية، ما يعزّز القناعة الشعبية أنّ المجلس لا يقدّم إضافة نوعية على صعيد التشريعات والسياسات، وأنّ قانون الانتخاب الذي جاء المجلس على أساسه هو أحد أسباب التدهور المحزن في دور المجلس وصورته ومخرجاته!
أمّا الظاهرة الثالثة، والمحزنة أيضاً، فتتعلق بالتدهور أيضاً بمستوى اللغة العربية لدى أغلب النواب الذين يفترض أن يمثلوا نخبة المجتمع وطليعته، وأغلبهم لا يستطيع أن يميّز بين المرفوع والمنصوب، وعديدون منهم يفترض أنّهم حاصلون على شهادات جامعية، ما يعكس أكثر من مخرج؛ تراجع ملحوظ في نوعية النخب ومستواها الثقافي، تراجع في مستويات التعليم، التدهور في علاقة العمل السياسي بمؤسسات التنشئة السياسية الأخرى، وفي مقدمتها المدارس التي كانت تقدّم نخبةً من المعلمين خلال العقود الماضية، بوصفهم قيادات سياسية واجتماعية، ما يدفع بالفعل إلى القول إنّ التراجع شامل في مختلف المجالات والمستويات!
الظاهرة الرابعة، بروز انعكاسات التوجهات اليمينية الأخيرة في بنية الحكومة والمؤسسات الأخرى والاتجاهات السياسية على الهوية الوطنية، الأمر الذي ظهر في خطابات بعض النواب، ممن حاولوا مغازلة الأردنيين من أبناء هذه الشريحة، كما فعل، مثلاً، النائب محمد الظهراوي وأندريه حواري وغيرهما، وهي خطاباتٌ تتطلب بالفعل وقوف "مطبخ القرار" في البلاد على دلالاتها السياسية والرسائل الثاوية فيها من "مطبخ القرار".
لا يمكن القول إنّ الصورة مظلمة بالكامل في جلسات الثقة، فهنالك خطابات جيّدة، لكنّها تبقى حالات فردية في المجلس، إنّما ما كان لافتاً هو حجم التفاعل الشعبي والنخبوي مع كلمة النائب الجديد، عمر عياصرة، وهو إعلامي وسياسي معروف، إذ وصل عدد المشاهدات إلى عشرات الآلاف، وتداول النشطاء والنخب السياسية كلمته، وتواصل معه المسؤولون الكبار في الدولة، ما يعكس حجم التعطّش الشعبي والنخبوي حتى إلى مثل هذا الخطاب السياسي، وتلك اللغة التي تتحدّث عن الدولة ومؤسساتها والهوية الوطنية بلغةٍ جريئةٍ وشجاعة، وبعباراتٍ واضحة وقوية باتت بمثابة أمر غير معتاد في مجالس النواب الأخيرة، في حين كانت مثل تلك الخطابات واللغة هي السائدة في مجالس نواب سابقة، كما هي حال مجلس 1989 الذي يتذكّره الأردنيون جيداً بصورة مغايرة تماماً لأغلب المجالس الأخيرة!
لا نحتاج وقتا طويلا بعد جلسات الثقة النيابية إلى اكتشاف أنّ وجود مائة نائب جديد لن يجدّد اللعبة السياسية في الأردن، ولن يغير من الواقع المتراجع شيئاً، إلاّ إذا كانت هنالك إرادة حقيقية برد الاعتبار لشرعية اللعبة السياسية، ومصداقية المؤسسات الدستورية وإنقاذها من الصورة المتردّية التي وصلت إليها في استطلاعات الرأي العام.
العربي الجديد