السنوات الأخيرة من مسيرة بلادنا شهدت إقبالا كثيفا من رجالات الدولة وبعض الشخصيات العامة على غصدار مذكراتهم، أو ما يحكي عن تجاربهم ومواقفهم ورؤاهم خلال وجودهم في الموقع العام.
الظاهرة مهمة ومحمودة، فهي إما انعكاس لحالة الارتياح والطمأنينة التي يشعر بها الكاتب، وثقته بأنه أدى ما كان عليه أداؤه خير قيام، أو تنم عن شعور بعضهم بالظلم أو سوء الفهم والتفسير لما قام به، أو شارك به من أعمال ويود أن يضع الأمور في نصابها ويقول الأشياء كما حصلت لا كما رويت عنه. في حالات أخرى كتب بعضهم مذكراته؛ ليثير زوبعة، أو ليثأر من أشخاص رحلوا لأسباب لا يعلمها إلا الكاتب وفئة قليلة ممن عرفوا المرحلة وشهدوا الأحداث التي تروى.
في العديد من الاصدارات التي ظهرت في السنوات الأخيرة كانت الأحداث تدور حول المؤلف ويبدو فيها العامل المشترك وصاحب الدور البطولي أو المساند، وفي مثل هذه الروايات بدت الإصدارات كمذكرة توضيحية طويلة لإظهار دور صاحبها في التاريخ أكثر مما هي رصد موضوعي للأحداث.
بصورة تختلف عن كل ما عهدنا وضع دولة الأستاذ عبدالرؤوف الروابدة بين يدي القارئ العربي كتابا يشتمل على أكثر من ستين عنوانا فرعيا تراوحت بين المحاضرات والدراسات والخطابات التي جاءت في أوقات وظروف متباينة، وقد عدَّها الكاتب نماذج من طرائق تفكيره التي تعكس مواقفه من الموضوعات والقضايا، وتقدم نموذجا للطريقة التي تعامل فيها مع الأحداث عبر رحلته التي دامت ما يزيد على خمسة عقود.
يمتاز الكتاب الذي قدمه الروابدة في مطلع هذا العام وحمل عنوان “هكذا أفكر” بأنه يحتوي على المحاضرات والدراسات والخطب التي أعدها في فترات زمنية امتدت منذ سبعينيات القرن الماضي واستمرت حتى يومنا هذا، فالرجل يقدم بصراحة ووضوح عينات من كيف كان يفكر ويشعر ويتصرف، مشيرا إلى أن الأوراق والمواقف والأفكار لم تتوالد بالأمس، ولم تكن نتاجا لقرار الرجل بأن يدعي الحكمة بأثر رجعي.
يتتبع الروابدة مسيرة الأردن وتاريخها ويفكك العلاقات ويعيد تركيبها بوضوح وصدق وبلا مواربة أو تحيز، مجيبا عن كل ما يخطر بالبال من اسئلة حول نشأة الدولة الأردنية الحديثة ومصاعب تشكلها وأدوار البناة الأوائل، ويطلع القراء على الموروث الثقافي الحضاري الأخلاقي الذي يوجه مسيرتها ومكامن القوة المسؤولة عن استمراريتها رغم كل ما واجهت من اخطار وتهديدات.
ودون تكلف أو مواربة يستخدم الروابدة التاريخ والجغرافيا؛ ليبين الترابط العضوي بين المكونات الديمغرافية للأردن، فيعيدنا إلى زمن قسمت فيه سورية إلى أربعة أقاليم، هي: حلب ودمشق والاردن وفلسطين، إذ كان التقسيم عرضيا ترتبط فيه الأردن بصفد وفلسطين باللد والرملة.
القضايا الساخنة التي تشغل الجميع هذه الأيام كانت موضع اهتمام الروابدة مبكرا، فقد تحدث عن الهوية والمواطنة والأحزاب واللامركزية وأنظمة الانتخاب والشورى والقضية الفلسطينية وتولي النواب لمواقع وزارية، وقدم دراسات في كل موضوع منها.
على مساحة 576 صفحة يتحدث الروابدة بإسهاب عن كل ما قد تتطرق له مجالسنا وندواتنا، ويحاول أن يداعب القارئ، ويجيب عن الأسئلة التي قد تخطر ببال الفئة التي تنظر كل ما يطرحه الساسة ورجال الدولة بريبة.
في رأيي المتواضع، إن في الكتاب الكثير مما يتحدث عن شخصية الرجل، ويساعد على فهم الطريقة التي كان يفكر فيها، ويهتدي بها في كل ما قام به من أدوار ومهام عبر تاريخه الحافل بالعطاء والإنجاز. صدور الكتاب في مطلع العام الذي تحتفل فيه الدولة بدخول مئويتها الثانية يجعل من المهم الالتفات إلى ما قدمه الروابدة وغيره من رجالات الدولة، وجمع هذه المواد والتعامل معها كجزء مهم من تاريخ الأردن وأدبياته السياسية والفكرية.
كنت أرجو أن يكون للروابدة وكل رجالات السياسة على شاكلته كرسي في كلية العلوم الإدارية يشغلها أستاذ بصورة دائمة وتتجه العديد من الأبحاث والأطروحات إلى ما قام به الرجل عبر مسيرتة الطويلة الزاخرة بالعطاء.
الغد