سأحاول بقدر ما أستطيع أن أصف ماذا يحدث معي بالضبط حين أنفعل: مشهد أو كلمة أو ربما خاطر يعبر بالبال ثم... ، لا أعرف على وجه التحديد طبيعة التفاعلات التي تحصل داخلي ، يبدأ ما يشبه الماء أو سائل الحديد الذائب بالغليان ، ثم يتصاعد إلى أعلى بسرعة هائلة كما يصعد الهواء الساخن ، ثم يحتقن رأسي و"يضوج" كأنه راس بريموس أو بابور كاز ، ويزوغ البصر ، وأشعر أن ثمة دخانا يخرج من أذني اللتين تمتعقان بلون يشبه لون السوسنة السوداء.
هذه الكيمياء تتكرر أحيانا كل يوم ، وفي بعض الأحايين مرة في الأسبوع ، وكانت تصيبني عادة صباح اليوم الذي أرى فيها مقالتي في "غيابة الجب" منبطحا مكانها بالضبط خبر أو مجموعة أخبار ، وحينها أشعر كأنني عدت ذات ليلة إلى غرفة نومي فوجدت شخصا ما ممددا في سريري ، وربما لا يكون شخصا بل جثة ، هذا الشعور غادرني منذ فترة لأنني عملت في "مطبخ" الدستور فترة طويلة ، وأعرف ما يقاسيه الطباخون من متاعب هائلة أحيانا ، تنوء بحملها الجبال ، ومع ذلك لا أستطيع أن أفرح حين أرى المقال "كاشا" أو مقطوشا كما حصل بالأمس ، وحرت بماذا أجيب لمن سألني: ليش مقالك "شارب"؟ أم أن نبع الأفكار جف؟ لم أفهم فورا ماذا يقصد ، لكن حين أدركت أن مقالي كالقماش الرديء يشرب حين يُغسل ، انقلب انزعاجي إلى ابتسام ، وطابت لي الفكرة ، وتخيلت كيف يتم غسل المقالات بالتايد ، أو سائل الجلي ، طبعا إذا كان المقال من النوع الثقيل فلا بد من "نقعه" بالماء قبل ليلة كي "يفك" الوسخ ، أما حين يكون المقال لشخص مهم ، فمن المفروض أن يُغسل بالشامبو ويجفف بفوطة نظيفة ذات شراشيب ناعمة كي لا نؤذي خده الأملس ، أما إذا كان المقال ليوسف غيشان مثلا أو ياسر الزعاترة ، فأعتقد أن أي محلول أو مسحوق غسيل أو جَلي لا ينفع معه ، وقد يلزم غسله ثلاثا إحداها بالتراب ، وربما يكون من الأفضل غض النظر تماما عن قصة الغسل ، وتركه جانبا تمهيدا لدفنه وفق مراسيم مهيبة تليق بفقدان عزيز .
حين أكتب عن مثل هذه المشاعر ، حالي كحال بالع الموس ، فمن جهة لا أستطيع التقليل من حجم الجهد الهائل الذي يبذله الأعزاء الدكتور نبيل الشريف والأستاذ محمد التل ، ومن جهة أخرى تنازعني مشاعر خاصة كأي أب تجاه أبنائه من المقالات حينما أرى من يتمدد مكانها في السرير .
المعادلة في غاية الصعوبة والمشقة ، وتفكيك رموزها لا يعلمه إلا من كابد العمل خلف الكواليس ، لكن ما هو مؤكد - وهنا سأحاول أن لا أمسح جوخا - أن علينا أن نجد عذرا دائما للأساتذة في التحرير حتى ولو لم نكن مقتنعين بمبرراتهم ، لأن تحمل مسؤولية صحيفة في بلادنا أشبه ما يكون بالمشي في حقل ألغام ، وتزداد المخاطرة حين يكون الماشي يحمل معه آخرين ، فهو مكلف بحماية نفسه ومن يحمل ، حتى وهو لا يملك خارطة للألغام ولا كاشف لديه إلا حاسته السادسة، وأتذكر هنا كلمة يرددها دائما ابن أبي محمد التل: أنا بحميك من نفسك ، وهي عبارة مخففة تعلن عادة نعي مقال ،
al-asmar@maktoob.com