كلما وقع حدث جلل على مستوى البلاد ، نجد من ينبري للهجوم على مفهوم العشيرة ، ويحاول أن يحمّلها كل تناقضات مجتمعنا ، وأنها أساس أي مشكلة ، تقع في هذا المجتمع ، والصحيح أن الذين يهاجمون العشائرية ، لم يدرسوا مفهومها ، ولم يطلعوا على تفاصيل نظام مؤسسة العشيرة ، التي هي بالأصل ، مؤسسة اجتماعية محترمة ، تحافظ على تماسك المجتمعات ، ولا تعرقل - كما يدعي البعض - سيرنا نحو المؤسسية والمدنية ، ومن قال بالأصل أننا لا نعيش في دولة مدنية ودولة مؤسسات ، منذ أكثر من ستين عاماً ، أما الحديث عن القضاء العشائري والعادات العشائرية ، التي يزعم البعض أنها تضيع الحقوق وتمنع محاكمة المجرم ، فهذا كلام مردود من أوله لآخره ، فالاردن لم يبق به قضاء عشائري ، منذ اكثر من خمسين عاماً ، وهذا النوع من القضاء بالاصل ، لم يكن يضيع حقوق الناس يوما ، وما يجري اليوم ممارسته ، هي عادات اجتماعية محمودة ، تحاول الفصل بين الناس ساعة وقوع الحادث ، حتى لا يعلو صوت الغضب ، على صوت العقل ، ولا يتصرف ولي الدم ، من خلال عواطفه ، التي تكون قد طغت على كل منطق ، فيأتي هنا مفهوم العطوة العشائرية ، والعطوة لمن لا يعرف ، هي أول اعتراف من طرف المعتدي للمعتدى عليه بالحق ، وهذه أولى درجات حفظ حقوق الناس ، والفصل بين الأطراف ، ليتسنى للإجراءات الرسمية والقضاء المدني ، السير حسب المطلوب.
أي أن العادات العشائرية الموجودة لدينا ، والموجودة أيضاً على كل الأرض العربية ، لا تعرقل سير التقاضي بين الناس ، بل تساعد وتدفع باتجاه إحقاق الحقوق لأصحابها.
العشيرة لمن لا يعرف أو لمن لا يريد أن يعرف ، مؤسسة اجتماعية وفي معظم الاحيان مؤسسة اقتصادية ، حيث أن كثيراً من العشائر الأردنية ، تقوم بتدريس أبنائها ، على طريقة التكافل الاجتماعي ، خصوصاً إذا علمنا ، أن في معظم العشائر صناديق عامة لمثل هذه الحالات ، كما أن معظم العشائر ، تقوم بتأمين دخل معقول لأي من أبنائها ، إذا كان عاطلاً عن العمل ، حتى يتسنى له إيجاد عمل. وكثير غير هذه السلوكات الاجتماعية المحمودة ، تقوم بها عشائرنا.
إن العشيرة تضمن وحدة المجتمع ، حيث تشكل اللبنة الأولى في بنيان المجتمع العام ، ولم ولن تكون بمفهومها الصحيح عقبة أمام دولة المؤسسات ، ونحن في الأردن ، نعيش في كنف أعظم عشيرة عرفها التاريخ العربي ، وهم بنو هاشم ، بناة الدول الحديثة وواضعو القوانين والدساتير المتطورة للناس ، وهم زعماء ثورة غيّرت مجرى تاريخ الأمة ، ولم تمنعهم عشائريتهم من كل هذا.
أما الحديث عن مظاهر العنف ، التي طفت على السطح في مجتمعنا في الآونة الاخيرة ، وخصوصاً في الجامعات ، نقول أن هذا عائد لتحول مجتمعنا خلال العشرين سنة الماضية ، وانفتاحه الكبير ، وأحياناً بطريقة غير مدروسة ، على كثير من الأمور ، التي لم نكن نعرفها في السابق ، الأمر الذي أدى إلى اختلال التوازن عند بعض أبنائنا ، الذين تعاملوا مع كثير من المستجدات بطريقة سلبية ، ولم يكن للعشائرية أو كما يدعي البعض ، الأوضاع الاقتصادية الصعبة دخل بذلك ، بل على العكس ، نرى كثيرا من الطلبة الفقراء ، يبرزون في دراستهم الجامعية ، ولا يجعلون أوضاعهم الاقتصادية والأسرية تؤثر عليهم.
لماذا لا نقول في المقابل ، ان البذخ الزائد والرفاهية المبالغ بهما ، هما اللذان يمكن أن يكونا سبباً في العنف ، الذي نراه في جامعاتنا ، فما معنى أن يحمل الطالب أكثر من هاتف خلوي ، ويذهب يومياَ إلى صالون الحلاقة ، كي يغير تسريحة شعره بمبالغ كبيرة ، ويكون في جيبه مبلغ كبير ربما يساوي مصروف عائلة كاملة لمدة اسبوع ، وغير هذه السلوكات المكلفة ، حتى يتماشى مع آخر الصرعات ، ثم يدخل إلى الحرم الجامعي ، ويتصرف كأن هذا الحرم له وحده ، ويجعله غروره واعتزازه الكاذب بنفسه ، لا يطيق أن تطير من فوقه فراشة ، "حتى لا نقول ذبابة" ، وآخر ما يفكر به الدراسة والثقافة واحترام الغير والقانون ،،.
العنف يبدأ من الأسرة ، فإذا لم يراقب الأهل ابنهم من بدايات سنواته الأولى في المدرسة ، وميوله المختلفة مراقبة علمية حثيثة ، فإن شخصية هذا الإبن ، من الممكن أن تكتسب صفات سلبية ، وتتأصل في شخصيته ، وتنفجر في أي لحظة ، في وجه الاهل والمجتمع. فمن يمارس العنف كنهج حياة ، لا يعنيه إذا مارسه في المدرسة أو الجامعة او البيت ، أو حتى الشارع العام.
علينا أن لا نحمّل الأمور أكثر من طاقتها ، ونقول أن جامعاتنا ومدارسنا ، أصبحت تعاني من الانفلات ، كما ردد البعض مؤخراً ، فأمورنا بخير ، ولكن هذا لا يعني ، أنه لا يجب علينا أن نعيد النظر ببعض الأمور وخصوصا التشريعية ، التي من شأنها أن تركز على شخصية الطالب ، وتحاكي طاقاته الإيجابية الكامنة ، لجعلها تتغلب على تلك السلبية الموجودة في كل إنسان ، كما أراده الله تعالى ، فقد خلق الله تعالى ، الخير والشر في الإنسان.
العشائرية في مفهومها الإيجابي ، مؤسسة محترمة ولبنة أساسية في البناء العام للمجتمع ، ولم تصدًّر يوماً للمجتمع ما هو سلبي ، وما نلحظه في الفترات القليلة الماضية ، من بعض الظواهر في مجتمعنا ، موجود في كل المجتمعات ، وبما أننا مجتمع صغير ، بدأ ينمو بسرعة خلال السنوات الماضية ، فأمر طبيعي ، أن نستغرب بعض المظاهر الجديدة ، التي يجب علينا جميعاً ، محاصرتها قدر الإمكان ، وعلينا أن لا نجلد مجتمعنا وأنفسنا ، أكثر مما يجب.
الدستور