إعادة فلسطنة النزاع مع إسرائيل
د. مروان المعشر
11-01-2021 04:02 PM
بعد فشل مباحثات طابا بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي أوائل العام ٢٠٠١، خبت الآمال بإمكانية التوصل لحل نهائي للقضية الفلسطينية ينهي الاحتلال ويقيم الدولة الفلسطينية القابلة للحياة على التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية. بعد ذلك بحوالي السنة، خرج العالم العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ببادرة جديدة هي المبادرة العربية للسلام والتي اعتمدتها الدول العربية في قمة بيروت العربية عام ٢٠٠٢. وقد تمحورت هذه المبادرة حول ايجاد إطار جديد لحل النزاع العربي-الاسرائيلي يقدم للجانبين الفلسطيني والاسرائيلي ما يحتاجانه للوصول الى تسوية عادلة، فطرحت المبادرة فكرة مبادلة العالم العربي بأجمله علاقات دبلوماسية كاملة وضمانات أمنية جماعية لإسرائيل، مقابل انسحابها الكامل من كافة الأراضي العربية التي احتلتها وحتى حدود الرابع من حزيران (يونيو) عام ١٩٦٧، بما في ذلك القدس الشرقية. بعبارات أخرى، نقلت المبادرة العربية النزاع من اطاره الفلسطيني (في مجمله) الى إطار عربي أوسع، وارتكزت على عمودين أساسيين: الأول: مبدأ كامل الأرض مقابل السلام الحقيقي الدائم والعادل والشامل، والإجماع العربي على كيفية حل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي كخيار استراتيجي للدول العربية.
لقد مر على المبادرة العربية ثمانية عشر عاماً لم تنجح خلالها في حل النزاع وفقاً للإطار العربي الأوسع، وذلك بسبب التعنت الاسرائيلي وعدم نية اسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها. ومع بروز تطورات جديدة على الساحة تتعلق بالانقسام الفلسطيني، والثورات العربية التي أدت الى تمحور اهتمام الدول العربية نحو شؤونها الداخلية، اضافة الى تخوف الدول الخليجية تحديداً من التهديد الايراني، بدأت المبادرة العربية تفقد زخمها وعناصر قوتها تدريجياً، فيما واصلت اسرائيل خلق حقائق جديدة على الأرض لمنع قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة على التراب الفلسطيني.
لكن التطور الأبرز في العام الماضي يكمن في توقيع أربع دول عربية اتفاقيات مع اسرائيل جاءت لأغراض ثنائية لا تتعلق بالقضية الفلسطينية. ولم تشترط هذه الاتفاقيات انسحاب اسرائيل من الأراضي المحتلة كما لم تشترط تحقيق الاجماع العربي للدخول في هذه الاتفاقيات الثنائية. وبالتالي فقد كانت احدى نتائج هذه الاتفاقيات، ولو بطريقة غير مباشرة، القضاء على مبدأ الارض مقابل السلام واضعاف الموقف الفلسطيني بفقدان الاجماع العربي على حل النزاع كخيار استراتيجي عربي، ما يجعل من الصعوبة بمكان الزعم أن للمبادرة العربية أي أثر فعلي في حل النزاع العربي-الاسرائيلي، بل يمكن القول إنها قد انتهت فعلياً.
إن مجمل هذه التطورات تقود للاستنتاج أن الغطاء العربي الذي وفرته المبادرة العربية للجانب الفلسطيني قد زال، كما أدت الى اعادة فلسطنة النزاع وأن الفلسطينيين لا يستطيعون بعد اليوم التعويل على العالم العربي لحل النزاع الفلسطيني-الاسرائيلي.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل يعد هذا تطوراً إيجابياً أم سلبياً؟
يعتمد الجواب الى حد كبير على الفلسطينيين أنفسهم. يستطيع الفلسطينيون الاستمرار في السياسة الحالية، وهي سياسة تعتمد التشبث بحل الدولتين والمبادرة العربية تشبثاً لفظياً، مع ادراكهم التام بانكشاف الغطاء العربي عنهم وبعدم وجود خطة قابلة للتنفيذ لتحقيق الانسحاب الاسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية. كما أن واقع الحال ما هو إلا مجرد اعطاء اسرائيل مزيداً من الوقت لابتلاع الارض دون أن تدفع ثمن كلفة الاحتلال، لا مادياً ولا اخلاقياً امام المجتمع العربي والدولي. وفي هذه الحالة، تكون كلفة فلسطنة النزاع باهظة لأنها تتشبث بمبادرات وحلول مر عليها الزمن وحصل عليها تغيرات أفقدها القدرة على تنفيذها.
يستطيع الفلسطينيون أيضاً استيعاب ما حصل اقليمياً وعالمياً من تغيرات، وإدراك — على صعوبة ذلك من جيل القيادة الحالي الذي ما زال متمسكا بإطار اوسلو والمبادرة العربية — أن هذه التغيرات تتطلب أيضاً تغيراً جوهرياً في المقاربة الحالية نحو تحقيق التطلعات الوطنية الفلسطينية وتجديد الهوية الوطنية الفلسطينية بشكل يحفظ حق الانسان الفلسطيني في حياة كريمة تحقق له ولها حقوقه وحقوقها الانسانية والسياسية الكاملة.
حتى يتحقق ذلك، حان الوقت لإدراك الفلسطينيين بعدم إمكانية الاعتماد على الاجماع العربي كعنصر أساسي للتوصل إلى حل النزاع بعد اليوم، وبضرورة اتخاذ سياسات قديمة جديدة مبنية على "فلسطنة " القضية. يتطلب ذلك، وكما تطالب بوضوح أعداد متزايدة من الجيل الفلسطيني الجديد، بتحقيق المصالحة الفلسطينية بشكل جدي، وعدم اضاعة الوقت بشعارات لفظية تدعم المصالحة ولا تفعل الكثير لتحقيقها.
وإذا لم يشأ الجانب الفلسطيني التراجع عن حل الدولتين كأساس لحل النزاع ولاعتبارات سياسية قد تكون مفهومة، فما يمنع أن يقرن سعيه شبه المستحيل نحو هذا الحل بمطالبته اسرائيل والمجتمع الدولي بمقاربة تعتمد الحقوق السياسية والانسانية الكاملة؟ ان مثل هذا السعي من شانه قلب الطاولة على رأس اسرائيل التي ستكون الخاسرة الاكبر من مقاربة الحقوق المتساوية، ومن شأنه أيضاً تدويل النزاع الفلسطيني-الاسرائيلي من جديد بإحراج المجتمع الدولي الذي لن يستطيع أن يقف في وجه مثل هذه المطالبة مكتوف الأيدي الى أجل غير مسمى. أن تحقق حل الدولتين في المستقبل البعيد فهذا تطور ممتاز، وإن لم يتحقق تكون لدى الفلسطينيين استراتيجية جديدة إما أن تساعد في تحقيق حل الدولتين أو – كحد أدنى – تحقق الحقوق السياسية والانسانية لهم بغض النظر عن الشكل المؤسسي للحل.
إن اعتمد الجانب الفلسطيني مثل هذه المقاربة، تصبح الاتفاقيات العربية الثنائية الموقعة مع اسرائيل ثانوية بالنسبة للقضية، وتغدو فلسطنة القضية لصالح الفلسطينيين لا ضدهم، إذ أنها ستعيد الأمل بتحقيق التطلعات الوطنية الفلسطينية على التراب الفلسطيني.
مركز كارنيغي