القنبلة التي فجّرها الحاكم العسكري الإسرائيلي في حضن سكان الضفّة الغربية تنذر بتغيير ديمغرافية الأراضي المحتلة وإطلاق موجة شتات جديدة للأجيال التي تشبثّت بأرضها المحتلة وتهدد بقذف شظاياها صوب دول الجوار, لا سيما الأردن.
هذا القرار الاستفزازي المناقض للمواثيق الدولية دخل حيّز التنفيذ الثلاثاء بعد ستّّة أشهر على اتخاذه, ساوى فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما بين الفلسطينيين وإسرائيل لجهة عدم استعداد الطرفين للسلام. على أنّه لم يكن وليد الساعة, بل ارتكز إلى أول قرار عسكري استهدف عام 1969 من تصفهم إسرائيل ب¯ "المتسللين" إلى الضفة الغربية أو ما تسميها ب¯ "يهودا والسامرا", بعد عامين على وقوعها تحت الاحتلال إلى جانب مرتفعات الجولان وغزّة وصحراء سيناء المصرية.
التوصيف الذي وضعته قوة الاحتلال آنذاك كان يقضي باعتقال وطرد أي "متسلل" بطريقة غير مشروعة من دول معادية" إلى المكان الذي جاء منه, والمقصود بذلك الأردن, سورية, لبنان ومصر. القرار الأخير غلفّ تعريف "المتسلل" بتعديل يحمل "رقم 1650" بحيث يشمل أيضا "كل من أقام من دون إذن وأوراق رسمية".
بهذا السيف المسلط, تهدد حكومة نتانياهو المتطرفة بإبعاد آلاف الفلسطينيين ممن لا يحملون بطاقات إقامة صادرة عن سلطات الاحتلال أو مواجهة السجن سبع سنوات وغرامات, تاركة كوّة ضئيلة للإفلات عبر حق الطعن أمام محكمة عسكرية خلال 72 ساعة من تاريخ صدور قرار الإبعاد.
من بين الفئات المهددة بالقذف إلى المجهول آلاف الغزّاويين, منهم من يسكنون الضفة منذ عام ,1967 أو فلسطينيون يحملون جنسيات أوروبية عادوا من الشتات للعمل مع السلطة بعد اتفاق "أوسلو" (1993) عبر تصاريح زيارة أو "تأشيرة", وسعوا لتحويلها إلى إقامات دائمة, لكن
سلطات الاحتلال جمدت النظر في طلباتهم. كثير من هذه الفئة كانوا أسرى. وهناك أيضا "بدو" لم يحصل كثير منهم على بطاقات هوية, ومقادسة يحملون تصاريح ترفض إسرائيل تجديدها.
أمام أوامر الإبعاد المبهمة, قد يرحّل مقدسيون وبعض الغزيين إلى الأردن, كبرى الدول المستضيفة للاجئين والنازحين, ما يهدّد أمنه واستقراره.
داخليا, سيبعد القرار فرص إقامة دولة فلسطينية, وبالتالي يكون حض أمريكا للعرب على استئناف المفاوضات بالإنابة أو بطريقة مباشرة أمرا عبثيا. كما يطلق التصرف الإسرائيلي رصاصة الرحمة على خيار السلام, ذلك أن كل الإجراءات الإسرائيلية تكرّس الاحتلال وسياسات التوسع, بلع الأرض ولفظ سكانها.
وفقا لتقديرات مؤسسات حقوقية فإن القرار العسكري الأخير يستهدف نحو 70.000 فلسطيني في الضفة لا يحملون بطاقات هوية صادرة عن السلطة. ويخشى الأردن, بحسب مسؤولين, من إبعاد 50 ألف ضفّاوي إلى أراضيه التي دخلوا منها, ما سيفاقم الاصطفاف الداخلي بين مؤيدي الإبقاء على تقسيمات الجفرافيا في قانون الانتخابات قيد الإعداد, ومريدي توسيع قاعدة التمثيل الديمغرافي هنا, قبل تسوية القضية الفلسطينية.
قيادة السلطة الفلسطينية تقرأ القرار الإسرائيلي كجزء من مساعيها للسيطرة على الأرض وإفراغها من السكان, ضمن مؤامرة مبرمجة.
"إسرائيل تريد تهجيرنا وفرض نظام كانتونات على أراضينا الفلسطينية. تسعى لتقسيمنا إلى قدس وضفة وغزة ثم تقسّم الضفة إلى أريحا والخليل ونابلس ورام الله", على ما يؤكد رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير صائب عريقات. "اليوم هناك شوارع يسمح لأهالي أريحا بالمرور منها ولا يسمح لسائر سكان الضفة باستخدامها. وهناك مناطق محرمة على أهل القدس, وهناك شوارع خاصة فقط بالمستوطنين في الضفة".
الخبير في شؤون الاستيطان خليل تفكجي يقول: "مسار الاستيطان يؤكد أن حكومة نتانياهو تعمل على ضم نحو نصف الضفة الغربية (..) واضح تماما أنها ضمّت القدس, تعمل على ضم الأغوار التي تشكّل ثلث الضفة, وإذا أضفنا إلى ذلك المناطق الواقعة خلف الجدار تصل النسبة إلى نحو نصف مساحة الضفة".
ماذا فعلنا في الأردن? هل ارتقى خطابنا الرسمي إلى حجم التهديد الذي نحاول تجاهل وجوده? أم سارعنا لإعلان قبول تطمينات معسولة بعد وجود أهداف لإبعاد فلسطينيين; مع أن ما يرشح من معلومات يفيد بأن سفيرنا في تل أبيب علي العايد قدّم لحكومة نتانياهو احتجاجا شديد اللهجة, ولم يسمع منها ما ينفي وجود قرار بإبعاد "المتسللين" أي المقيمين من دون أوراق رسمية. بعد أن انقشع الغبار تحرّك الأردن للإعلان أن قرار إسرائيل "باطل ومرفوض".
قياس تداعيات ممارسات إسرائيل لن يتضح بين ليلة وضحاها, بحسب مسؤولين, بل سيتبلور أولا بأول مع تراكم قرارات إبعاد يومية لمجموعات صغيرة خلال السنوات الخمس المقبلة لتصبح عشرات الآلاف. فمن المستبعد أن تقدم دولة الاحتلال على ترانسفير مئات بالجملة لأن ذلك سيثير ردود فعل غاضبة لدى المجتمع الدولي.
نظريا, سوّقت إسرائيل قرارها للأردن والسلطة بدعوى أنه لا يشمل من يقيم في الضفة بشكل معتمد أو الغزازوة ممن دخلوا وأقاموا في تلك المناطق بشكل معتمد قبل حزيران .2007
ويزعم الإسرائيليون أنهم لا يضمرون أي نوايا لوضع ترتيبات صوب إصدار هويات جديدة لسكان الضفة, حسب تعريفات قانونية جديدة تمس الإقامة.
إذا من الناحية النظرية لا يفترض, بحسب الرواية الإسرائيلية, أن يخشى الفلسطينيون وسائر العرب من تطهير عرقي جديد, أو ترانسفير مبطن. لكن الامتحان الفعلي سيظهر مع التطبيق غير المشروع أصلا لقرار عنصري صادر عن حاكم عسكري لا يحق له أن يشرّع أو يغير التشريع في أراض محتلة.
المشكلة تكمن في غموض القرار والفئات المستهدفة منه, ما يمنحها مناورة تطبيقه على أي شخص غير إسرائيلي بغض النظر عن جنسيته ووضع إقامته. والمفارقة أنه يعفي المستوطنين مغتصبي أراضي الضفة الغربية من بطاقات إقامة على أرض مسروقة, ويطالب كل فلسطيني على أرض أجداده بالحصول على إذن إقامة سار.
بينما يجتمع العرب لمواصلة التمرين الصوتي ورمي سهام الإدانة والشجب, يتنصل أوباما, الحائز على جائزة نوبل للسلام, من مواجهة قرار إسرائيل المناقض لمعاهدة جنيف الرابعة (مادة 49), التي تحظر أي ترحيل قسري للسكان من الإقليم المحتل.
إسرائيل تخرق أيضا اتفاقيات الحكم الذاتي المرحلية التي اعتبرت الضفة وغزة وحدة جغرافية واحدة, ومعاهدة السلام الأردنية التي تمنع الطرفين من اتخاذ أي إجراءات قد تهدد البلد الآخر.
إذن, كيف سيتعامل الأردن مع هكذا تهديد مباشر لأمنه واستقراره, بخاصة وأن الحكومات تشبه مطالب المعارضة بإلغاء المعاهدة بالانتحار السياسي, لأن العلاقة الحميمة مع واشنطن تمر عبر تل أبيب?
هل سيضع تعليمات جديدة على الجسور تغربل القادمين من دون إغلاق شريان حياة الفلسطينيين في الضفة أو اتهامه بالليكودية و"ممارسة التطهير العرقي"?
فحص نوايا إسرائيل لن يستغرق أكثر من بضعة أيام, خصوصا مع صدور إدانات شديدة عن الملك ورئيس الوزراء أثناء وجودهما في واشنطن.
مطلوب الآن تطوير آلية سريعة قابلة للقياس والتعديل للسيطرة على حركة الجسور في متابعة تأثير قرار إسرائيل على المعادلة الديمغرافية على ضفتي النهر.
على السلطة أيضا اتخاذ إجراءات شفافة تعلن بموجبها أن كل فلسطيني في الضفة وغزة يحمل الجنسية الفلسطينية. وقد تهدد بقلب الطاولة على إسرائيل بإعلانها حل السلطة أو تشجيع انتفاضة ثالثة بعيدا عن العنف.
لكن لا عزاء للأردن, الفلسطينيين وسائر العرب أو مواصلة الاعتماد على أمريكا والمجتمع الدولي, بخاصة بعد أن أعلن أوباما عقب لقائه الملك قبل أيام أن جهوده لصنع السلام أحبطت بسبب مواقف الإسرائيليين والفلسطينيين. فبالمساواة بين قوة الاحتلال والواقعين تحت حرابه يعمق الانطباعات بتواطؤ أمريكي مع سياسات إسرائيل.
قرار إسرائيل يأتي في زمن باتت فيه سياسات اليمين أكثر وضوحا من حيث فرض سياسة الأمر الواقع, شراء الوقت وخلق وقائع جديدة بما فيها طرد العرب من القدس واستكمال تهويدها حتى يأتي يوم يتحول فيه الفلسطينيون إلى جزر منعزلة ويدخلون في علاقة من أجل البقاء مع مصر والأردن; أي بداية ترانسفير معلن.
الأردن الرسمي يقف اليوم أمام تحد غير مسبوق. فأي تساهل مع القرار الأخير يعني انه لا يمانع الترانسفير وان لا حول ولا قوة له إلا مقاومة القرار بالحديث عن أنها إجراءات باطلة.
خيارات العرب محدودة لا تتعدى الشجب والإدانة والشكوى لمجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية, التي فشلت في تطبيق قرار عدم مشروعية جدار الفصل.
ويبقى الأردن في الساحة وحده مكشوف الظهر, مهددا بأمنه واستقراره بعد 16 عاما على سلام تحول إلى عبء عليه, بينما تتلاشى أحلام الفلسطينيين في إقامة دولتهم المنشودة. البديل; تعمق التطرف وتكافئ جبهات الرفض, كما تنذر بإشعال صراعات لا يحمد عقباها.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
العرب اليوم