لم يَعُد التَّسوُل في الأردن أمرًا عاديًا و يَختَصُّ بالمحتاجِ و المريضِ بل أصبح مِهنةً احترافيةً في جمعِ المال لجهاتٍ مُعينةٍ، و مهنةً تجاريةً موجودةً و مُوَثقةً على الأرضِ، تجارتها في البشرِ والإنسانيةِ و ليس لها علاقةٌ بحاجةٍ أو فقرٍ في مُعظمها.
وبحُكمِ العملِ العام الخيريِّ الذي عملتُ بهِ و اختصَّ بالفقراء والمحتاجين و الأيتام، فقد تمكنتُ من التَّفرقةِ بين صاحب الحاجةِ الحقيقي و المتسول الذي يجوبُ الأرضَ كي يجمع الأموال لغاياتٍ عديدة، و بالرُّغم من ذلك فإنني لا أنكرُ وجود من يتسول لحاجةٍ و عوز ، ولكن بصورةِ التَّسولِ الحالي فقد ذهب الصالحُ بالطالح و أصبحَ شُعور الشَّفقةِ ليس كاملًا و حقيقيًا تجاهَ من يتسول.
لم يَعُد التَّسوُل مُقتَصِرًا على الإشاراتِ الضَّوئيةِ بل في كُلِّ مكان، المطاعم والصيدليات والعيادات والمراكز الطِّبية وجميع المَحالِّ المتواجدةِ في المدنِ والقرى و حتَّى وسائلِ النقل العام، ناهيكَ عن المتسولينَ الذين يتجولونَ في الأزِقَّةِ و الحواري و يطرقونَ أبوابَ المنازل، من الرضيعِ للكبيرِ و المريضِ و النساءِ و الأطفال، ومتسولين وسائل التَّواصلِ الإجتماعيِّ و المتسولينَ أمام كاميرات وسائل الإعلام، فباتَ الأمرُ مُزعِجًا للغايةِ و كأنَّ وزارة التَّنميةِ الإجتماعيةِ التي ما زالت تعتقدُ أنَّ دورها يقتصرُ على إعطاءِ الفقراء مبلغًا ماديًا بسيطًا فقط قد تغاضَت عن ما تبقى من مهامِها و ما هو ضمن النِّظامِ الداخليِّ لعملِها.
نعم نشكو التَّسوُل، ونشكو طرقهُ، و نشكو انعدام الإنسانية الذي يسودهُ، أطفالٌ رُضَّع يتم التَّسول من خلالهم ، نساءٌ ينتزعنَ كرامتَهُنَّ ، و أطفالٌ يخرجونَ من المدارسِ، يتمُ استئجارهم للعملِ و بيع بضعة أشياء للحصول على المال!!!
للتَّسولِ آثارٌ نفسيةٌ واجتماعيةٌ سلبيةٌ عديدةٌ على الأطفالِ والنِّساءِ والكبارِ والصِّغار ومنها، أنه لا أساس تربوي للأطفال ومن الممكنِ تشرُدَهُم واكتسابَهم لعاداتٍ غيرَ مُستحبةٍ و خاطئةٍ تجعلُ من الطِّفلِ شخصًا غير طبيعي ولا يرتكزُ على مبادىءَ حياتية و دينية وإنسانية، والتَّسول أيضًا لا يحفظُ كرامةَ المرأة و لا كرامة الإنسانِ بشكلٍ عام.
في يومٍ من الأيامِ كان هُناك تدريبًا خاصًا لانتزاع الخوفِ من النَّفس و كان قد اختارني المدربُ لأُمثلَ دورًا مسرحيًا ل " متسولٍ" تفاجأتُ و لم أُصَدق و خُصوصًا أنني أنبذُ التَّسوُل و قلت له حينذاك: مُستحيل و لن أقبل، لأن التَّسوُل أسوأ أمر و لا يمكن أن أتقبله، قال لي : أريد أن أرى بشخصيتكِ شيئًا و أكسرُ شيئًا آخر، و بعد مُحاولاتٍ عديدةٍ بإقناعي لتمثيل الدور ، و مشاعر لا تُوصَف كانت سيئةً و ثقيلةً على القلبِ قمتُ بذلك، و لم و لن أنسى ذلك المشهد الذي وضعني في مكانٍ غريبٍ جدًا قد أثر بي، و أشغل تفكيري و نقلني من مكانٍ إلى مكانٍ و كيف لمُتسولٍ ان يتسول و ( يشحد ) دون الشُّعور بانحطاطِ الإنسانيةِ و كيف هيَ حاجةُ البعضِ و كيف هي القدرات التمثيلية للحصول على مايريدُ الفرد و غيرها من الأمورِ التي أشغَلَت عقلي كثيرًا.
نتمنى الخلاص من هذه الجائحةِ المرعبةِ التي باتت خطرًا يُهددُ المجتمع و الفرد من جميع النواحي.