قبل نصف قرن تقريبا كنت أذهب إلى السوق، أقف قرب دكان الإسكافي الكائن في بيت درج، وأرقبه بشغف: المسامير في فمه؛ يده اليمنى تحمل المطرقة؛ ماكينة الخياطة إلى جانبه؛ حذاء وسندان ويده اليسرى.
كان إنساناً بحجم الشقاء، تأكل المطرقة أصابعه ويبتلع السندان أظافره و»تدرز» الماكينة بعض لحم يده، وتنهش المسامير لثته ولسانه. وأثناء ذلك يعزف لحن مصيره على آلاته الخاصة: المطرقة، والسندان، وماكينة الخياطة، ومسامير فمه.
يعيد الحيوية والشباب للحذاء البالي المنهك، يحوله من جلد مهترئ إلى شيء لامع بـ «ضبان» جديد، وهلاليات» لامعة تصفر لحناً موسيقياً عند المشي، بينما يبدو النعل لكأنه خارج للتو من وهج المصنع: المحيط متين ومدروز جيداً على الماكينة.
كان يعرف الناس من أحذيتهم؛ يعرف مستواهم المالي، تواضعهم غرورهم، فقرهم. وهو يتعامل مع الفقراء غالباً؛ لأنهم لا يحيلون أحذيتهم البسيطة على التقاعد إلا بعد أن تبلى تماماً، وتعجز أيدي الإسكافي وحيله اليدوية عن إنقاذ كومة الجلد المتهالك، فيتحول الحذاء، خصوصا إذا كان بلاستيكيا، الى وقود لسلق القمح خلال موسم البرغل ومشتقاته.
لاحظ الرجل أنني أطيل مراقبته، ناداني فدخلت بخجل.
- إنت ابن لمن يا ولد؟
- أنا ابن مخائيل.
- ومين أمك؟
- ندى.
- آه، انتا ابن عيطان.
كان هذا لقب أبي.
- تعال اقعد عندي وبلاش تظلك واقف في الشارع.
وهكذا اعتدت الجلوس عنده في الدكان الضيق، وكان يحادثني، عندما لا يكون عنده زبائن يجلسون في الدكان.
حدثني مرة عن قصة حصلت مع جدي لأبي، الذي لم أعرفه أصلاً، فقد مات قبل زواج والدي من أمي بعقدين على الأقل، مات بحقنة ساخنة.
أراد أحدهم أن يمازح جدي ذات يوم، فسرق إحدى فردتي حذائه، او ما يسمّى كذلك، خلال نومه بجانب دكان سمعان.
لم يحدِّث جدي أحداً بالموضوع. بل حمل الفردة الأخرى تحت إبطه وعاد إلى البيت حافياً. بعد يوم أو يومين، أراد اللص الظريف أن يستفسر عن الموضوع، فسال جدي إذا ما كان قد وجد فردة الحذاء. فجأة وثب جدي على الرجل وبطحه أرضاً، وقال:
– إنته الخاين. هات الفردة هسع، والا بكسر نيعك.
– على مهلك يا رجل. كنت بمزح معك. لكن كيف عرفت إني أنا الخائن؟
– بسيطة، لأني ما حكيت لحدا بالموضوع، وما حدا بعرف عن السرقة إلا الخاين اللي سرق الفردة.
(من كتابي الجديد «البالون رقم 10»)
الدستور