لَمْ اخترْ يوماً أن أكونَ معلمة، ولا أخفيكم أمراً، أمقتُ مهنة التعليم - بعيداً عن مثالياتها - إذ إنني مُذْ بدأتُ دراستي في الجامعة وأنا مُعلمة، كنتُ أعاني من ازدواجية الشّعور وأرغبُ في عيشِ المرحلة كما هي، دون قيود أخرى. لكنّ كما قالت العربُ: مكرهٌ أخاكَ لا بطل.
واليوم أنا معلمة في مكانٍ أحبّه، من خلفِ شاشةٍ أشرح، أتخيلُ القاعة أمامي، الطلاب في مقاعدهم، والكثير من الأصواتِ والهمسِ.
تركضُ الأيام، ونحنُ خلفها، فصلٌ مضى لَمْ نرَ فيه وجهًا للطلبةِ، الصفوفُ خاوية، نستلمُ كراساتٍ مصورة، مخطوطة بأقلامِ الأمهاتِ تارةً وتارة أخرى يفيقُ حِس المسؤوليّة تجاه أطفالٍ في مراحل تعليميّة متوسطة، لا ذنبَ لهم في تكاسلِ أولياء الأمور أو ظروف اتصال الإنترنت.
نستلمُ إجابات تَنُمّ عن حضورِ حصةٍ مصورة عبر الواتساب، تصلُ إلى الطالبُ في بيته، يشاهدها كما يفعلُ مع أفلامِ الكرتون، لا الشّعور بشخصية المعلمِ حاضرٌ ولا الشّغف بطرحِ سؤالٍ غير مفهومٍ أو ذكي متاحٌ. ولو حاولَ إعادة مشاهدةِ الفيديو متجاوزاً ما ألْبَس عليهِ فهمه، سَيصلُ إلى النقطة غير المفهومة ذاتها، يسمعها، ويركزُ بها، ويكررها مرة رابعة، وعاشرة، وتظلُّ الأمور كما هي، غير مفهومة، لا تتغير.
قُدِمتْ لنا أعذار مختلفة تبرر تقصير الطلبةِ في حلّ واجباتهم، بعضها تكادُ تكون منطقية وما علينا إلا تقبلها. وعند رصدِ العلامات، وضعنا للطالبِ ما يستحق بناءً على ما قُدِم، ولا نعرفُ خلفَ كواليس الإجابة من يختبئ. في ظلِّ غيابِ التقييم التربوي للمستوى الحقيقي للطالب لا يحقُّ للمعلمةِ أن تُنقِصَ علامةً واحدة أو تُضيفها. الأمرُ لا يُعدُّ غريباً، الغريبُ فعلاً ما وصلَ إليه حال التعليم.
يسألنا بعضُ الطلبة ما إذا كانَ الفصل القادم في المدرسة أم لا. نتجاهلُ الرسائل أحياناً محاولين تجنبَ الرّد بإجابة غير مقنعة: " لا نعلم مثلنا، مثلكم".
أمامنا مصيرٌ معلقٌ مُشترك، قرارات غير ثابتة، طلابٌ يطالبون بالعودةِ إلى المدارس، معلمون دونَ رواتب، آخرون يعجبهم الحال، آراءٌ هنا وهُناك وكورونا لَنْ تفصلَ خلاف القضية.
المشكلة بدأتْ في عدم التأقلم مع الوضعِ الراهن، وانعدام البنية التحتية لدى كثيرٍ من الطلبة، إذ أن هاتفاً واحداً لا يكفي أربعة طلابٍ في مدرسةٍ واحدة، وتكاليفُ اتصال شبكة الإنترنت ليستْ أولوية قصوى مقارنةً مع فاتورة الكهرباء.
أعداد طلبة المدارس الحكومية ترتفع، والطلابُ يستيقظون بعدَ الظهر، مستقبلٌ معتم، نفتقدُ حِسّ المسؤولية مع مرور الوقت، الحاجة ماسة للعودة إلى التعليم التقليديّ الَّذي فقدناه، والمعلمُ واجهة أولياء الأمور. كورونا لن تطول؛ فمصيرها الفناء كغيرها من الفيروسات، لكنّ من يتحمل عبء فشل الأجيال وتكاسلهم في المراحل القادمة؟