معدلات البطالة المرتفعة بالأردن لغز اقتصادي عجزنا كمجتمع وكحكومات عن فك مفاصله. أقول لغزا لأنه وفي ذات الوقت الذي نشهد فيه المعدلات العالية من البطالة، تجدنا سوقا لملايين العمال الوافدين الذين يأتون للأردن وبأجور مجزية عن الوظيفة الحكومية. هذا لغز محير ليس فقط لخبراء سوق العمل والاقتصاديين، بل أيضا للدول المانحة والمنظمات الدولية التي نرتبط بها ببرامج إصلاح مالي واقتصادي. تفسير هذه الأحجية أننا لا زلنا نتصرف وكأننا دولة نفطية ريعية متأثرين بعقود من استفادة الأردن من اقتصاد النفط الخليجي، والسبب الثاني ثقافة العيب التي وإن تراجعت عبر الزمن لكنها ما زالت حاضرة بعقول أبنائنا ومتجذرة كنمطية مجتمعية.
لم ننجح للآن بالسيطرة على جحافل العمالة الوافدة غير المرخصة رغم نجاح دول الخليج المبهر بذلك، وهذه ظاهرة خطيرة يضيع بسببها على الخزينة مئات الملايين سنويا، وبتقديري أن الأمر يحتاج حالة طوارئ وحلول خلاقة تساند جهود وزارة العمل التي لا تتحمل مسؤولية العمالة غير المرخصة وحدها. ولكن إلى أن نجد حلا لهذه المعضلة الخطيرة، وإلى أن نخرج من عقلية أننا نعيش في دولة ريعية، وإلى أن تتغير ثقافة العيب وتتأقلم مع ظروف اقتصادنا الموضوعية، لا بد من مبادرات وحلول تدخلية تستطيع أن تخفف من حدة المشكلة. من هنا تأتي أهمية التدريب المهني كحل رئيسي وفاعل لمواجهة البطالة.
مشكلة التدريب المهني وتحدياته الأساسية تكمن في ثقافة العيب مع أنه مجزٍ ماديا لحدود ممتازة مقارنة بالوظيفة العامة، لكن شبابنا ما زالوا يفضلون ويذهبون للوظيفة طالبين الأمان الوظيفي على أن يدخل قطاع التدريب المهني المجزي. تجري محاولات لتحسين الصورة النمطية عن التدريب المهني وإظهاره أنه قطاع لا يقل برستيجا عن الحصول على شهادة بكالوريوس، بل ويحظى باهتمام ورعاية ملكية كما حدث بافتتاح جلالة الملك لأكاديمية جاغور لاند روفر للتلمذة المهنية، وتلك رسالة ملكية للمسؤولين والشباب ورواد الأعمال في آن معا، أن قوموا وبادروا بمثل هذه الأنواع من الأعمال التي تعطي تدريبا عمليا يؤهل أصحابه لدخول سوق العمل. اسم هذه الأكاديمية وحده أعطى المنتسبين البرستيج الذي يحتاجونه، وربما محاولات بذات الاتجاه من قبل شركات أخرى ستكون مفيدة.
لن ننجح بالتدريب المهني ما دامت غالبية خريجي المدارس يدخلون الجامعات للحصول على بكالوريوس، وغالب خريجي البكالوريوس يسعون للوظيفة. لا بد من إصلاح سياسات التربية والتعليم والتعليم العالي حتى نعطي الأكسجين للتعليم المهني. لدينا تجربة ناجحة بالتاريخ في كلية البوليتكنك التي كانت تخرج مهنيين أسميناهم “مساعد مهندس”.
حولنا هذه الكلية الرائدة التي كان يتسابق أبناؤنا لدخولها إلى كلية تمنح شهادة بكالوريوس تماما كما حولنا معظم كليات المجتمع بالبلد، وهذا توجه يعاكس تماما المطلوب، ومضر يغذي ثقافة العيب ويذكيها، ويقذف آلاف الخريجين من حملة الشهادات الجامعية لسوق العمل الراكد.
التدريب المهني مفتاح لحل معضلة البطالة ويحتاج لجهد عابر للمؤسسات والسياسات يشبك بينها ويكامل أدوارها. هذا ليس مستحيلا بل ممكن وفي متناول اليد.
(الغد)