رفض أن يعقد مع الموت صفقة وذهب "أبو طارق" إلى ربّه هادئاً هانئاً مبتسماً. على مدار عام كامل منذ ارتبطتُ به كصهرٍ له لم يوصن على ابنته "هديل" إلاّ حينما أخذتها من بيته لتلتحق ببيتي زوجةً وقبل وفاته بيومين حينما قال لي: دير بالك على هديل.
جيلي والجيل الذي قبلي يعلمان من هو "جميل أحمد العلي الرحامنة". يعلمان أنّ اسمه واسم أبيه يرفرفان فوق جبال البلقاء كمنارتين يلجأ إليهما كلّ ضال ويقتفي أثرهما من أراد خير الناس.
كنتُ أتمنى أن احظى بشرف كتابة مذكراته؛ فاتحته في الأمر أكثر من مرّة؛ كان موافقاً لكنه كان يؤجّل إلى أن جاءه الأجل فقضى على أمنيتي. هو خبير بعلم الرجال فقد عاصر ثلاثة أجيال ويعرف خباياهم وتقلّباتهم ولعلّ عمله الطويل كقاضٍ جعل منه شخصية تحتكم لديها الخصوم.
لن أدّعي مأثرتي به في السنة الأخيرة من حياته؛ ولكني سأدعي أنه أكثر شخص جالسته وتحدثتُ إليه مستمتعاً في سنة العشرين عشرين؛ وسادّعي ادعاء الواثق بأنني أحببته وتعلّقت به وكنتُ من رفقائه المقرّبين في رحلة مرضه الأخيرة. وسأدّعي بأن الرجل بادلني ذات الحبّ وإن كان لا يفصح ولكنّ ابتسامته الكبيرة حين يراني وحديثه الساهب معي يؤكدان لي ذلك.
صحيح أن "أبو طارق" قد مات؛ ولكنّ ما سمعته وشاهدته من حكاياته مع الناس تؤكد لي أن الرجل لن يموت فقد حفر طويلاً في الناس بل في وجدناهم ونقش اسمه في ذاكرة الأردن حتى صار أحد رجالاتها المتربعين على لوحها المحفوظ.
الآن أبو طارق تحت ثرى "يرقا" قريته التي نزفها حبّاً وعطاءً وكان يتمنّى العودة إليها منذ جائحة كورونا ولكنه عاد ببدلته البيضاء. كان يكره الحظر الشامل والتزم به ولكنه عاد إلى "يرقا" زعيماً بموكب في يوم حظر شامل حيث كانت الشوارع متفرغةً تماماً له ولاستقباله ورقد رقدته الأخيرة بجانب أحبابه.
لمثلك تبكي العيون وتأسى القلوب يا أبا طارق. ويحقّ لي أن أقول بملء الصوت لأنني أقل من عاشرك ممن حولك: لم أشبع منك؛ لم أرتوِ من تفاصيلك؛ لم تجبني بعدُ على أسئلتي كلّها؛ المرض والموت خدعانا. لذا؛ والله لم أشبع منك.
على روحك السلام؛ وأنت الآن في حمى الله. أطمئنك بأنني: سأدير بالي على هديل.
(الدستور)