من المدن ما يطبق على قلبك على الرغم من اتساعها ، ومنها ما تفسح له مدّ البصر على الرغم من صغر مساحتها !
ربما تسير في شوارعها مغمض العينين ، ولا تتعثر قدماك ، فالقلب يعرف أين يسير ، ولن يخذلك ، فبين قدميك والطرقات ألفة تجاوزت الحاجة إلى النظر !
فيها فقط يقابلك الناس بابتسامة ، ويستوقفك معظمهم ليسألك عن نفسك قبل عقود ، وليذكّرك بموقف ، وليسألك عن أهلك ، حتى الجد الخامس منهم ، وليشكرك على ما لم تتذكر أنك فعلته !
فيها فقط ؛ يرفض طبيبك أن يأخذ أجرة الكشف عليك لعارض صحي ما ؛ لأنه يعرفك !
فيها فقط ؛ يرفض البائع أن يأخذ ثمن ما ابتعته ، ويبادرك بعبارة ( خلّيه علينا ) ؛ لأنه يعرفك !
وفيها فقط ؛ يبادر أحدهم بدفع حساب ما ابتعت من أشياء ، ويسبقك لذلك دون أن تعلم ؛ لأنه يعرفك !
فيها فقط ؛ تتوقف عند أبواب البيوت تسلم على أهلها ، ويتشبثون بك لمشاركتهم طعامهم ، وقهوتهم ؛ لأنهم يعرفونك !
فيها فقط ؛ يتوقف كل من يقابلك ( بعد وقت طويل لم يرك فيه ) ، مرحباً ؛ ليؤكد لك أنه ما زال يذكرك ؛ حتى وإن تغيرت ملامح وجهك ،
ورسم عليها الزمن خطوطه ، وترك بصماته ؛ لأنه يعرفك !
فيها فقط ؛ تبحث عن ذكرى قديمة ، وعن ياسمينة عتيقة كنت تلقي عليها التحية كل صباح ، وأنت ذاهب إلى عملك !
فيها فقط ؛ تتوقف لتلقي السلام على ذلك التاجر الذي جلس أمام متجره ؛ لأنك تعرف به ، ويعرفك !
تعرف مساجدها ، كنائسها ، ميادينها ، ساحاتها ، وهي تعرفك !
فيها فقط ؛ تعرف تفاصيل المتاجر ، ووجوه أصحابها ، وأين يخبئون بضاعتهم ، ليؤثروا بها بعض معارفهم ، ومنهم أنت !
فيها فقط ؛ تعرف أسماء العائلات ، وسكان البيوت ، وسيرتهم ، وماضيهم ، وحاضرهم ، وهم يعرفون عنك كل شيء !
فيها فقط ؛ تعرف أصحاب البيوت المهجورة والمهدّمة !
فيها فقط ؛ تعرف أصول عائلاتها الشامية والكردية و و ، وتعرف باحات تلك البيوت ؛ البحرة ، وعرائش العنب فيها ، والياسمين !
مدارسها تعرفك ، وأنت تعرف كل زواياها ، ووقع خطاك ما زال يقول ، كنت هنا يوماً ، وسجلاتها تعرف تعرجات خطك ، وذوب عقلك
وقلبك ، وعصارات فكرك ، وما زال صوتك ورجع صداه في كل الردهات !
تجوب مدناً سهل الله لك دخولها ، والعيش فيها ، ومعرفة كل جمالياتها وسحرها ، لكن نفسك لا تهفو لغير مدينتك !
تدخل مطاعمها ، لكن شهيتك لا تعترف بغير مطعم الحلبي العتيق ، وذكرياته ؛ فللحواس ذاكرة !
وتقضي أمسياتك في متنزهاتها وحدائقها ، لكن نفسك لا تتوق لغير حديقة المشير ، والقلعة تطل عليها ، فيتعانق التاريخان ؛ تاريخ حابس ، وتاريخ شهدائها من كل عشائرها ؛ الذين استقرت أجسادهم في واديها السحيق ذات ظلم !
وتاريخ علياء ، واحتراق قلبها ، وإبراهيم الذي وفّى !
وهبّة فتيتها ؛ الذين آمنوا بربهم وبها ، يوم حاول الخوارج اقتحام حصونها !
تدخل منتديات ، ومحافل ، وملتقيات في كل الأماكن التي قادتك ظروفك إليها ، وتسمع لشعراء ، وأدباء ، ومثقفين ، لكن قلبك لا يجد مبتغاه بغير أمسية أدبية في فسحة من مكان وزمان ، أتاحهما لك شعراء الكرك ، ومثقفوها !
سائق الحافلة يعرفك ، عامل الوطن يعرفك ، البائع المتجول يعرفك ، لمبات الشوارع ، وأعمدتها تعرفك ، فطالما استندت عليها لحظة انتظار !
القلعة ، شارعها ، متاحفها ، دهاليزها ، أدراجها ، قاعاتها ، ( سائدها ، وأسدها ) ، وصهيل خيلها ، ووقع سنابكها ، وحداء فرسانها ، ( الكرك يا زينةصبوح عيّت على طلابها
متربعة بين السحاب يغشى النجم مؤابها
بدم النشامى مطيبة ومعطرات ترابها ) !
حتى صلاح الدين ؛ ربما يعرفك !
حاراتها ، أدراجها ، مخابزها ، وجوه المتسولين ، ووجوه من ابتلاهم الله تعرفها ، حتى وجوه العشاق ، ومواعيدهم البريئة أمام ( صخر ) تعرفهم ، وهم يعرفونك !
مقابرها ؛ تعرف من رقد فيها آمناً ساكناً ، وربما تتوقع أين ستكون زاويتك أو ركنك فيها !
تخرج من كل أحزانك ، وتنحاز للحياة من جديد ، فجريان نهر حبها يتدفق في شرايينك ، وقلبك يؤوي كل تفاصيلها !
أنت خارجها مجرد رقم ، وعابر سبيل ، ومجهول الهوية ولو عرفك القليل ، انت خارجها خارج دائرة الدفء ، والضوء ، والأمان ، والسلام مع نفسك ، أنت خارجها قلِق ، غير مستقر ، ولا متوازن ، وتبحث عن أية فرصة ، أومناسبة تعيدك إليها !
هل يعلم كل الذين يدعونني للسكن في العاصمة ؛ لماذا أنهي المكالمة ، أو أغير موضوع الحديث ؟!
يا سادتي :
للمدن أحاسيس مثل البشر ، فهي تحب الأوفياء ، والمخلصين ، وتتأذى من كل العاقين ، والجاحدين ، ومن يدير لها ظهره ، فهل تريدون مني أن أترك شرفة الوجد التي أطلّ منها على ذاتي ، ماضيّ ، وحاضري ، ذكرياتي ، وأهلي ، أحبتي ، أصدقائي ، وحتى أعدائي ، ولا أجد روحي غير فيها ؟!
هل تريدون مني أن أجرح إحساس الكرك ، وأنا عاشقتها ، وروحي تعلقت بروحها ، وواثقة أنها تبادلني العشق ذاته ؟!
فالقلوب لا تكذب أبداً !