نسمع عن نظرية الاغتراب للمفكر كارل ماركس بين الحين والآخر، ولكن قلة هم من يتمكنون من إيجاد رابط ذهني بين النظرية وواقعهم. ولا ننسى أن للنظرية بعد فلسفيًا عميقًا. وكأني رأيت النظرية مجسدةً تمامًا كما وصفها ماركس، عند أخذ نزهة وعند تجولي في أحد المراكز التجارية، بعد اطلاعي على النظرية بعمق أكبر. فأن نعرف ما هي النظرية أولًا؛ أن نقرأ عنها، أمر أساسي في فهمها وتجريب صلاحيتها أو حتى نقدها كنظرية.

تقول النظرية بشكل عام ومبسط أن الإنسان في المجتمع الحداثيّ (يعني؛ "الحديث") والصناعي، أصبح ينتج ويصنع منتجات مختلفة دون أن تكون له فائدة أو استخدام مباشر لهذا المنتج، أو المادة. وكل هذه المواد تمر بمرحلة تصنيع أو معالجة من طرفنا كعمال، دون أن يهمنا من يحتاجها ومن يستخدمها ولماذا يستخدمها. ومن هنا يأتي الحديث عن الجانب النفسي للإنسان ككائن اجتماعي يقوم بتحركات أو أفعال يظن أن يكون لها هدف معين في المستقبل؛ هدف يتصوره هو لأي فعل معين. وبالتالي فإن "طرف الإنتاج الرأسمالي" جعلت من الإنسان العامل إنسان يقوم بصناعة العديد من المواد دون التفكير بوجود غاية معينة لها يستطيع ربطها بحياته. وبالتالي فهي بلا شك نظرية معقدة وعميقة لا يمكن التعبير عنها ببساطة مطلقة ولا بمقالة واحدة فوجب الإطلاع على تفاصيلها ومن كل جوانبها بشكل منفصل. ولا ننسى أن لنظرية الاغتراب أبعاد أخرى كثيرة كاغتراب الإنسان عن طبيعته البشرية Gattungswesen واغترابه عن بيئته وعن فعل الإنتاج.

وما ألحظه وأنا أعيش في أحد المجتمعات الحداثية كما غالبيتنا، أن العنصر الإنساني غائب في معظم حياتنا اليومية. وغياب العنصر الإنساني هو مثل غياب أي شيء يربط الإنسان بذاته وأصله وطبيعته. فيوجد رابط بيولوجي بين الإنسان والطبيعة الأم. بين الإنسان والأرض، والشجر، والطيور، والماء. وفي هذه المجتمعات يقل وجود هذا العنصر الإنساني مع حضور مباني الحداثة العملاقة بتصاميمها المتنوعة جدًا، وبالطرق الكبيرة التي تربط بين مدينة وأخرى، يسافر الناس من موقع عملهم إلى موقع سكنهم. كلما قلت الفضاءات العامة؛ أي كل مكان يستطيع الشخص أن يجد فيه متنفسًا وأن يمارس فيه نشاطات يومية غير متعلقة بعمله وبالإنتاج، كلما كان الوضع أشد وخامة على صحته النفسية وعلى علاقته مع باقي الأشخاص.

غياب العنصر الإنساني له تأثير سلبي على بعض الأشخاص فيطور البعض سلوكيات انطوائية، ويتجنب غالبية الناس النظر بعيون الغرباء، في الباص أو في الشوارع، أو في المحال حتى. وبهذا تصبح أحدى أهم مهارات التواصل الإنساني وهي التماس البصري eye-contact قليلة الوجود. لم يمثل لي الباص أي شيء يربطني بطبيعتي وبالأرض والتراب، ولا حتى المائدة الخشبية؛ هي مصنوعة من الخشب الذي نحصل عليه من الشجر، ولكنها ليست شجرة..