نشرت منذ أيام مقالا بعنوان "قطاع التعليم أيضا" أبين فيه أن توجه الدولة لتطوير الخدمات في قطاعات الزراعة والصحة والنقل، وما يرتبط بها من صناعات متعددة يحتاج إلى إعادة هندسة قطاع التعليم ليكون القاعدة المتينة التي تنبني عليها عمليات التطوير والابتكار والاختراع والابداع والريادة، التي تجعل من تلك القطاعات وغيرها قادرة على النهوض باقتصادنا الوطني.
بعض التعليقات التي تلقيتها على ذلك المقال عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر الهاتف لم توافق رأيي المستند إلى كثير من الحقائق المدعمة بقياسات وتصنيفات دولية بأن التعليم يشكل أساسا قويا في بنية الدولة الأردنية، وأن الوزارت والمؤسسات التعليمية قادرة على مواكبة التطورات والتغيرات التي يشهدها العالم منذ بداية ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وأن جميع الحكومات بما فيها حكومة الدكتور بشر الخصاونة جادة في رسم خارطة الطريق لوضع التعليم العام والعالي ضمن سلم الأولويات.
ومن الطبيعي أن يأتي السؤال المنطقي "لماذا لا نلمس ذلك على أرض الواقع؟" والجواب ليس عندي بقدر ما هو عند خبراء التعليم في العالم كله، فلو تسنى لأي منا متابعة ما يقوله البريطانيون أو الفرنسيون أو الألمان لأصابتنا الدهشة من حجم ونوعية الانتقادات التي تتعرض لها منظومات التعليم، لأنها لم تتمكن بعد من كسر الجمود في التفكير النمطي للطلبة الذين يدفعون للتركيز على عمل الواجبات الاعتيادية والإجابة على الأسئلة من دون أخطاء، بل إن بعضهم ذهب إلى القول بأن طلاب جامعة "كامبردج" هم أيضا لا يعرفون كتابة مقالة، مع أنهم يجيدون عمل الواجبات التدريبية القياسية مما يحرمهم من أن يكونوا مثقفين حقيقيين، ومن جانبه دعا "جيري غارفيس" الذي ترأس مركزا دراسيا شهيرا منذ سنوات قليلة إلى إعادة بناء منظومة التعليم جذريا، مشيرا إلى أن حصول الطالب على درجات ممتازة في المنظومة القائمة لا يعد مؤشرا على رقي مستوى تعليمه وثقافته!
لا أقصد من ذلك عقد مقارنة من أي نوع، ولكن جدلية التعليم ونوعيته ومخرجاته قائمة في كل مكان، غير أن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن التعليم يشكل قاعدة النهوض بالدولة وشعبها وقدراتها الاقتصادية والحياتية، وأنه القاسم المشترك بين جميع القطاعات التي لا يمكن أن تتطور من دون تطور التعليم ومخرجاته المرتبطة بالتنمية الشاملة، تغييرا وتحديثا، عن طريق تنمية القدرات العلمية والبحثية، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، وتدريب القوى البشرية المحلية على ممارسة الأعمال والمهارات التي تضاعف الإنتاج، وتوسع آفاقه ومجالاته المباشرة وغير المباشرة، وتحقق النتائج وفق معايير التنافسية والجودة العالية .
لكي تتضح الصورة أريد أن أضرب مثلا بسيطا فيما يخص الزراعة والصناعات الغذائية، التي تضعها الدولة ضمن أولوياتها للمرحلة المقبلة، ذلك أن أسوأ ما نواجهه بهذا الشأن يكمن في مسألتين: الأولى هي عشوائية الانتاج لأنه غير مرتبط أصلا بإستراتيجية اقتصادية محددة المعالم تضع نمطا زراعيا يلبي حاجة الأسواق المحلية والخارجية، ويزود الصناعات الغذائية بشكل منتظم، والثانية هي القوى العاملة ذات الخبرة التقليدية التي لا يمكنها استخدام الأساليب والآليات الحديثة التي تعظم من كمية الانتاج للمساحة الزراعية المحددة.
أردت من هذا المثال أن اقول إن تطوير الزراعة يبدأ من التعليم الزراعي العالي والمتوسط، والبحوث العلمية التطبيقية، ضمن الإستراتيجية التي أشرت إليها، والتي تتضمن بشكل واضح آلية إقامة الصناعات الغذائية، لتلبية السوق المحلي والخارجي وحمايتها، وتفتح السبيل أمام القوى البشرية الأردنية المتعلمة والمدربة، لتستفيد من عائدات هذا القطاع، وفي هذا المثل ما يمكن أن يطبق في جميع القطاعات، الأمر الذي يتطلب جعل قطاع التعليم أولوية قصوى وخيارا ملحا، فضلا عن كونه مصدرا مهما للدخل حين يستقطب الطلبة العرب والأجانب، ومشغلا حيويا للقوى البشرية الأردنية العاملة في مؤسسات التعليم العام والخاص.