تشير مراجعة مجلس محافظي صندوق النقد الدولي الأخيرة، التي وردت في بيانه عن الأردن، إلى درجة كبيرة من المرونة في التعامل مع تحديات الاقتصاد الأردني. الصندوق بدى متفهما للتحديات التي تواجه الاقتصاد، وعليه أعلن استيعابا لبعض التوجهات المالية الأخيرة، وتفهما لتأخير بعض الالتزامات التي كان واجبا تحقيقها ضمن برنامج الصندوق مع الحكومة الأردنية.
تأتت هذه المرونة الضرورية لأربعة أسباب أساسية: جائحة كورونا وما أملته من تحديات ضاغطة على الاقتصاد والمالية العامة، تغيير المعنيين بإدارة ملف الأردن في صندوق النقد الدولي بعد أن كان يتابعه فريق متشدد بلا مجسات سياسية، مصداقية الدولة الأردنية الدولية والتزامها بالإصلاح والدعم الدولي الذي تسنى نتيجة ذلك، وأخيرا مهارة فريق الحكومة المعني بالتعاطي مع الصندوق بأسلوب منطقي مقنع.
مرونة صندوق النقد الدولي تفسر بعض القرارات الأخيرة للحكومة التي بدت وكأنها إخلال بالتزاماتها مع برنامج الصندوق، لنعلم الآن أن هنالك توافقا أو قبولا من الصندوق لهذه الإجراءات من إعفاءات قللت الإيرادات ومن توسع نسبي بالإنفاق. هذا شأن مهم لأن التزامنا ببرنامج إصلاحاتنا مع الصندوق أمر إستراتيجي للبلد عابر للحكومات، وإلا فسنجد أنفسنا في حال سيئ يشبه ما تتعرض له بعض الدول مثل لبنان الشقيق.
لم تتضح بعد الهوية الاقتصادية للحكومة. نجدها في أحيان تنحاز للرأي الاقتصادي الذي يقول إن الإعفاءات والتخفيف من أعباء بعض القطاعات سيحقق النمو ويزيد بالتالي عوائد الخزينة، وذاك رأي وازن ومتداول رغم أنه تاريخيا لم ينجح بالأردن، وتراها في أحيان أخرى ملتزمة بالأهداف المتفق عليها في برنامج الإصلاح الاقتصادي الساعي لتخفيض عجز الموازنة والسيطرة على نسبة المديونية من الناتج المحلي الإجمالي.
في الحكومة من ينتمي للمدرسة الأولى، ولكن المعنيين بشكل مباشر بالملف الاقتصادي والمالية العامة ينتمون للمدرسة الثانية، يدركون ضرورة كبح جماح الدَّين وتقليص عجز الموازنة لأن هذا ما سيحقق النمو المستدام غير الطارئ سريع التلاشي. هذه الثنائية حكمت العقل الاقتصادي الأردني لسنوات طويلة وربما آن الأوان لمنهج ثالث يجد طريقا وسطا بين الاتجاهين.
التخفيضات الضريبية الأخيرة ربما مثال حي لانحياز نسبي في رؤية الحكومة الاقتصادية لصالح نهج تخفيض العبء الضريبي على بعض القطاعات حتى تنمو وتساهم بالتالي في رفع معدلات النمو الوطنية. لكن الطريقة التي أتت بها تبدو لن تفعل ذلك، وجلّ ما ستحققه سيكون زيادة أرباح القطاعات المعفاة ضريبيا.
ماذا لو قيدنا الإعفاءات ببنود وأهداف محددة ستدفع القطاعات للنمو والتوسع بدلا من زيادة الربح؟ ماذا لو ربطنا الإعفاءات بما ستصدره القطاعات للخارج وليس إعفاءات شاملة غير مربوطة بأهداف تحقق النماء والدخول أكثر للأسواق العالمية؟
يجب مغادرة الثنائية التي حكمت إدارة الاقتصاد لعقود، واجتراح منهج أردني يوائم ما بين ضرورات الالتزام ببرامج الإصلاح الاقتصادي الانكماشية حكما، وبين الرغبة بالتوسع بالإعفاءات لتمكين القطاعات على النمو. هذا ممكن وليس مستحيلا، يحتاج لمزيد من التعمق بقرارات الإعفاءات وربطها بأهداف ومؤشرات تحقق بالفعل النمو لقطاعات اقتصادية رائدة مؤهلة لقيادة الاقتصاد الوطني وتحقيق معدلات نموه المؤمّلة.
الغد