داهمتني غفوة عصر يوم أمس رأيت خلالها ما يراه النائم الذي تتكىء جفونه على تخوم الصحو.. فأبصرت خبراً احتل مكاناً قصياً على طرف الشاشة الصغيرة ومفاده أن لبنان الشقيق ما يزال في انتظار تقرير وحيثيات الأقمار الصناعية حول حريق مرفأ بيروت واسبابه. أي أن حريق الارض هنا.. ولظى الوجع في القلوب ما يزال في انتظار ترياق وتقرير القمر هناك.
ولا ادري كيف وجدتني أغفو ثانية, ولكن هذه المرة, على وقع لحن حزين صدحت به ذات زمان مضى سفيرة القمر الى الارض, الايقونة (فيروز) حيث بعد (الآه) قالت: (ما في حدا لا تندهي مافي حدا). والباقي عندكم.
بيروت.. يا منبع الحضارة ومصب الأمل.. لك الله وحده.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
بيروت, يا ست الدنيا, اعرف أنك منذ شهور معدودة تحملين في يمناك مصباح (ديوجين) في عز الظهر بحثاً عن (نيرون) الذي ذبح الناس.. ودمر البيوت والمباني حين أشعل نار حقده الاسود في المرفأ.. وذبح ردنك البهي الذي يتكىء بدلال على زند البحر.. هذا الردن الذي ظل وفياً لمحيطه العربي..وبقي على الدوام مرسال الأمة ولسانها الطلق الى قارات الكون في اوقات المد القومي والجزر الاقليمي.. وظل يوشوش أمواج البحر المتوسط وكل بحار الدنيا عن امة (الضاد) وحضارتنا العربية طيلة حقب المد والجدب على حد سواء.
بيروت.. يا زهرة الشرق الندية.. بي مثل ما بك من وجع وحريق واصطبار.. ولي كبد اكتوت بنار النار مثلك.. وذاقت علقم ولظى نار الظلم وظلم النار مثلك.. نعم.. ذاقته مرتين.. أولاهما حين استهدف الطغاة ذات لحظة طيش وظلم نسرنا المهيب الشهيد البطل (معاذ الكساسبة) واشعل الظالمون نار حقدهم حوله وفي جسده الطاهر وهو يبسمل رافعاً الرأس ويتشهّد ويتلو القرآن الكريم ويخاطب رب العالمين.
والثانية, يا بيروت, عندما استهدف (نيرون) حلمنا المزهر.. مرفأ بيروت الذي كان سفير الامة المفوه لثلاث قارات من حولنا.. والاميركيتين هناك.. وأزيد.
فقد وحدّت نار الظلم وظلم النار بين قلبينا, انت يا بيروت وأنا.. وغدوت في حيرة لا ادري من يبوح لمن؟. ومن يواسي من؟ أهو الحرف المبحوح في لهاة قلمي وحلقي.. أم حنجرة الحضارة القومية المزروعة في إهابك يا سيدة المدن؟.
بيروت.. يا نجمة الصبح القومي.. تعاطفي معك مقيم في قلبي الذي اتقن منذ تباشير وعيه القومي تهجئة حروف مجد لبنان وحفظ أسماء وافعال عباقرة ورموز لبنان الى جانب سطور مسلّة الملك العظيم (ميشع).. وفي خانة مرموقة يحتلها نشيد (بلاد العرب اوطاني) الذي كان يعطر الصباحات أيام الزمن الجميل. وهل يعطر صباحات الوطن والافئدة ويمنحها المجد والسمو غير اسم فلسطين والجزائر ومجد امة العرب؟!
بيروت.. كيف لا احزن من أجلك.. وانفث رئتي غيظاً وحنقاً في وجه من ظلموك واشعلوا نار الحقد في طرفك البهي.. الذي كان فيما مضى ملاذاً للموجوعين وطلاب العلم والحرية والثقافه في عالمنا المسجى من الماء الى الماء. كيف لا احزن من أجل ام الفقه والعلم والشرائع التي ربما كان ذنبها انها لم تظلم الظالمين.
بيروت.. يا مفتاح الشرق.. كيف لا انتصر لخاطرك المكسور يا ام العباقرة الافذاذ الذين اشعلوا منارة نهضة ثقافية وعلمية في ارجاء المعمورة. وبحكم الانتماء القومي منح لبنان الشقيق كافة الاخوة في العروبة شرف الانضواء تحت عباءة الثقافة واصبح الكل شركاء في الصيت الحضاري والفعل الثقافي رغم ان البعض مصنفون «اجعارية» لا يفكون الحرف.
كيف لا اتعاطف معك, يا ام جبران خليل جبران الذي كان حلمه القومي يتجلى في ميلاد امبراطورية (الضاد) العربية من الماء الى الماء. كيف لا يتوحد وجعي معك يا من انجبت العبقري (ايليا ابوماضي) الذي خاطب ندّة البحر الواسع فاصغت امواجه العاتية لسحر بيانه.. وخاطب السحب في الآفاق فردت على البوح بدمع سخي يروي شفاه العطاشى وعروق الشجر. وخاطب المقابر وساكنيها باعتبارها المكان الوحيد الذي يتساوى فيه الجميع ضمن متر بمترين.. وحيث الموت – بحول الله – يملأ النفس سكينة.. وهجوعاً.. وانعتاقا.
كيف لا اغرق في بحر من الوجع من اجل خاطرك, يا ام العبقري (أمين الريحاني) الذي نبه من خلال منظار (زرقاء اليمامة) قبل نيف وبضعة عقود لمخاطر العدو الصهيوني على العرب ناساً.. وارضاً.. وثقافة.. وكياناً.. وقضية. وخاطب الغرب ودوله الكبرى بلسان الحكمة قائلاً: (إن الأمة الصغيرة وهي على حق لاعظم من الأمة الكبيرة وهي على باطل).
كيف لا اتعاطف مع عيونك يا من انجبت شاعر العروبة الفذ (رشيد الخوري) الذي ناصر ثورة سلطان باشا الأطرش ضد الاستعمار وبعث له برقية تضامن موزونة من سطرين يقولان:
فتى الهيجاء لا تعتب علينا
وأحسِن عذرَنا تحسنْ صنيعا
أجِرنا من عذاب النير لا من
عذاب النار إن تك مستطيعا!
كيف لا اصطف الى جانب ماجدة اهدت الكون النطاسي البارع (مايكل دبغي) الذي كان اول جراح في العالم يخترع المضخة الدوارة والتي اصبحت جزءا أساسيا من الة القلب وركناً مهماً في عمليات القلب المفتوح. فأودع الناس في الشرق والغرب قلوبهم باطمئنان الى حنان الأرز بين يدي مبضع وفطنة العربي اللبناني الشهير.
كيف لا اذوب في محيط من الحزن والوجع معك ومن أجلك, يا ام العلم والفقه والشرائع, يا من احتضنت جامعتك.. وناسك الطيبون.. في سالف من الزمن الشهيد والرمز الوطني والقومي الكبير حبيبنا (وصفي التل).. والقومي المتميز الشريف (عبدالحميد شرف) والفارس الشهم (حمد الفرحان) وكوكبة من القوميين من بلدنا الاردن والذين تفتحت قرائحهم في مناخك القومي.. ونضجت بشائر القومية العربية في نفوسهم على ارضك الطيبة وتعملقت الهمم في ذواتهم في افياء حضارتك ونفسك القومي.. فافاض الغالي (وصفي التل) وبمعيته كوكبة من العاملين المخلصين في ضفتي الاردن انجازات عظيمة للوطن.. وعزائم قعساء للناس.. ونهضة عالية للروح.. ومعنويات سقفها السماء.
مثلما افاضت روحه الطاهرة شهادة مضمخة بالمسك والطهر والدم من اجل الوطن والانسان والقضية المقدسة. فكيف لا اتعاطف يا بيروت معك يا من احتضنت شهيد الحق والقضية (اخو عليا) وفرسان النهضة الوطنية وبشائر القومية العربية!
وتنهمر, يا بيروت, اسئلة تلح على الوجدان مثل زخ المطر في موسم جدب طويل.. وتنداح علامات استفهام وتعجب كثيرة ومريرة ألمس وقعها على تخوم الارض اليباب.
وها انذا انقلها الى المسامع المجروحة دون رتوش:
اي مرفأ, يا بيروت, غير مرفأك الحنون يفتح الفؤاد على مصاريعه ليستقبل بوح الغلابى.. وانات المذبوحين.. واوجاع المتعبين! فقد اضنانا البحث عن مرفأ يشد أزر مشوار قومي تعبت خطاه. ويسند بقايا ظهر مهدود كان فيما مضى عصياً على كل الطغاة.
أي مرفأ غير مرفأك الفضفاض.. نفضفض له.. ونشكو له جور هذا الزمان النحس.. وظلم الانسان المتجبر لاخيه الانسان! أي مرفأ غير مرفأك, يا بيروت, فيه طبع وطيبة البنفسج الذي يهدي فوحه وعطره لابناء امته.. وينفرد هو والغلابى بالوجع والحزن النبيل؟!
أي مرفأ فيه صورتنا وشبهنا المجبول من ماء وطين؟!
أي مرفأ.. أي مرفأ – فكل المرافىء – يا ام الفقه والشرائع - اصبحت مسدودة. وكل المرافىء في دنيا العرب موصدة. وكل موانىء البشر اضحت موصدة. وكل مرافىء المسؤولين باتت موصدة. وكل بوابات الظالمين أمست بفعل فاعل موصدة.
ولدهشتنا - يا بيروت - فقد اضحت في الوقت ذاته كل المرافىء.. وكل الموانىء.. وكل البوابات.. وكل زواريب الزواريب في هذا الزمان الرديء.. كلها مفتوحة للكل الاّ لنا. نعم كل الموانىء والمرافىء والمنافذ والدخلات مفتوحة أمام الكل الاّ لنا.
بيروت.. يا من كنت المرفأ الحنون لقلوبنا.. ان قلوبنا الموجوعة لك مرفأ. وافئدتنا التي نسجناها من عندم الجرح وبوح الآه.. صيرناها لك جبيرة تضمدين بها جرح الحريق. قلوبنا -يا ست الدنيا- مرفأ لمرفأك الجميل. فانهضي يا طائر الفينيق. كي تنهض معك القلوب.
انهضي يا مرفأ احلامنا المزهرة.. انهضي يا فرحنا.. انهضي يا حزننا.. انهضي يا وحدنا.. انهضي يا من تحملين في اهابك البهاء والوجع معا.
انهضي.. فلن نبرح نحن القوميون الغلابى.. ومعنا.. عشاق الوحدة والضاد.. وقشطة الناس.. ومساكين العرب.. لن نبرح المرفأ.. نعم.. لن يبرح الغلابى رفقة البنفسج والحزن الابيض النبيل.
وفي الختام استعير قبضة ابيات مما دونه حرف وضمير الشاعر الكبير نزار قباني ذات بوحٍ.. ذات ضُحى.. وعلى مسمع من الملأ حين قال:
ان كوناً ليس لبنان فيه
سوف يبقى عدماً أو مستحيلا
كل ما يطلبه لبنان منكم
أن تحبوه.. تحبوه قليلا!
(الرأي)