عام (الكورونا) ما قبل وما بعد
مجيد عصفور
20-12-2020 12:04 AM
للمجتمعات والشعوب تقويمها الزمن الخاص غير التقويم العالمي الذي اعتمد بناء على دراسات فلكية علمية.
ففي كل مجتمع أو إقليم حوادث تحولت إلى تاريخ فاصل تتناقله الأجيال وتربط أعمارها به، كأن يقال أن فلاناً ولد سنة الثلجة الكبيرة، أو أن هذا البناء أقيم بعد الهزة التي وقعت عام ١٩٢٧، وللمدن والبلدات تقويماتها الخاصة مثل مدينة معان التي تعرضت لفيضانات مدمرة عام ١٩٦٦ ولغم أبو شام الذي ثار من مغارة في جبل عمان سمع به كل سكان المدينة.
وكلما كان الحدث كبيراً حفر في الذاكرة عميقاً بحيث يصعب نسيانه مثل الهجوم الذي وقع على برجي التجارة في مدينة نيويورك والانفجار الذي حدث في مرفا بيروت في آب الماضي، وبالرغم من ضخامة هذه الأحداث لولا التكنولوجيا لم نكن لنسمع عنها ولظلت محلية تخص المدن والبلاد التي وقعت بها.
لكن الأمر بالنسبة لوباء كورونا مختلف تماماً، فقد ضرب البشرية كلها، لم تسلم منه دولة، فهو سيظل في التاريخ لمدى غير معلوم علامة بارزة وحدثاً كبيراً يؤرخ ما قبله وما بعده.
دروس كورونا كثيرة أولها اقتناع البشر في كل الدنيا المؤمنين منهم وغير المؤمنين بعظمة الخالق وقدرته على تسيير الكون بدقة وبمعايير لا يُدركها عقل البشر مهما بلغ من العلم والمعرفة مراتب متقدمة، فقد كان عجز الإنسان على مواجهة فيروس لا يُرى بالعين، أول وأبلغ درس بأن الكون الذي يعيش فيه لم يوجد لوحده بل هناك من خلقه وقدر كل شيء فيه بمقدار مُحكم.
وبالقدر الذي احدث فيه الوباء أضراراً جسيمة أثرت سلباً على كل نواحي الحياة في طول الكرة الأرضية وعرضها، إلا أنه غيّر بعضاً من سلوك الناس في معظم المجتمعات ومنها مجتمعنا الأردني، فقد أجبرتنا كورونا على التخلي عن الكثير من الممارسات التي كنا نمارسها مُكرهين ونتمنى التخلص منها لكن العادات والتقاليد المرهقة تمنعنا فنضطر للاستدانة محافظة على كبرياء زائف أو بياض وجه لحظي يتلوه سواد وبهدلة لأننا حمّلنا انفسنا بما يفوق قدراتنا في الأفراح والأتراح، وكم من مريض عجز عن تأمين ثمن الدواء لضيق ذات اليد وعندما وافاه الأجل ازدحم صيوان عزائه بالمناسف التي لو تم مساعدته بكلفتها لارتاح من معاناة كبيرة كانت توجعة بأكثر مما أوجعه المرض، وكم من خلاف اندلع بين العرسان وذويهم لم تصلحه أو تمنع وقوعه الخطابات الرنانة والمدائح التي جادت بها حناجر الوجهاء في الجاهات، والأمثلة كثيرة في مجال النفاق الاجتماعي الذي اجتاح مجتمعنا.
إن الحياة بعد زوال كورونا يجب أن تختلف وعلينا أن نلغي من طقوسها الكثير من الممارسات التي خلصتنا منها كورونا، وأن لا نعود إلى ما كنا نشكو منه مثل حشد وتسيير جاهات مئوية لا تقدم ولا تؤخر في مسألة الموافقة لاتمام الخطبة والزواج ونكتفي بعدد معقول من أسرتي الطرفين لتخفيف الاعباء والحرج على الجميع.
لا يمكن الحديث عن إيجابيات لكورونا، فقد أودت بحياة آلاف من الاعزاء ودمرت حياة آلاف أكثر من خلال خسارة مصادر رزقهم وقيدت حركة البشر وأوقفت كل أنواع الانشطة، لكنها في كل الأحوال أمراً خارج إرادتنا، فرض علينا في جانب من إيقاعه أن نغير أسلوب حياتنا حفظاً للنفس من الهلاك.
إن الالتزام بالنظافة الشخصية ليس شرطاً مرتبطاً بوجود الوباء يمكن التحلل منه بزواله ولا الوقاية من الأمراض ترفاً يمكن الاستغناء عنه.
قبل كورونا بالكاد اقتنعنا بالتوقف عن شرب القهوة من فنجان واحد وسعينا لاستبدال تناول الطعام بالصحون الخاصة بدلاً من الأيدي ومن نفس السدر أو الطبق وبقي هناك عادات كثيرة لا لزوم لممارستها علينا التوقف عن ممارستها كالتقبيل الذي كنا نمارسه عدة مرات في اليوم واحياناً مكرراً مع نفس الأشخاص، وما زالت عادات كثيرة تتعارض مع أبسط القواعد الصحية وحتى المنطقية علينا أن نضعها على قائمة التغيير ونعمل بجد على التخلص منها فلا الوقت وقتها ولا الناس لظروفهم الحديثة ناسها.
لن نتخلى عن موروثنا «قلم قايم» ففيه من الحِكمة والرقي ما نعتز به ونفتخر لكن علينا أن لا نعيش بحالة شيزوفرينيا أو ازدواج الشخصية وتناقض ما بين القول والفعل.
الوعي يقتضي الاتساق بين السلوك والتفكير، فلا يمكن أن نواكب العصر ونستفيد من التكنولوجيا الحديثة التي سهلت لنا الاتصال والانتقال والاستشفاء والتعليم ثم نخرب كل هذه الفرص بممارسات بالية ضررها أكثر من نفعها.
الرأي