قبل حوالي خمسة قرون انهى السلطان العثماني, سليم الاول, حكم المماليك ونقل العاصمة الاسلامية من القاهرة الى الاستانه (اسطنبول) وانهى معها اخر معالم الوجود السياسي العربي الذي كان قد انتهى فعلا بسيطرة المماليك وقبلهم المدرسة الزنكية الكردية على آخر الخلفاء العباسيين..
وكما تمكن سليم الاول من هزيمة الامراء المماليك في معركة مرج دابق قرب حلب باستخدام آخر تقنيات ذلك العصر, البارود, يعود السلاجقة الاتراك من حلب والموصل مسلحين بتقنيات رأسمالية لم يتوصل لها العرب رغم نفطهم ومواردهم وعلى نحو اسوأ من مماليك تلك الايام. (والحق الحق اقول لكم) فان الانبعاث العثماني والعودة الى ارض العرب من جديد يحظى بتواطؤ شعبي عام, حتى انني لم اغادر شاشة التلفزيون طيلة مساء الاثنين الفائت, الذي صادف افتتاح اول فضائية تركية بالعربية (TRT) ولم تقدم نفسها كفضائية اسلامية اطلاقا بل كفضائية على النمط الاوروبي...
وقد لفت انتباهي خلال برنامج غنائي ان المطرب التركي كان يلبس قبعة اوروبية في اشارة واضحة لاتاتورك مؤسس الجمهورية التركية بعد سقوط الخلافة 1924 حين اصدر قرارا باستبدال الطربوش العثماني بهذه القبعة, كما اعاد المطرب المذكور اغنية شهيرة ضد السلطان العثماني (يذهب السلطان وتبقى الجبال لنا) .. وفيها ايضا كلام عن قبائل الاوغلو, اكبر العائلات التركية التي تقدم اليوم وزير خارجية عبقريا وفذا يذكرنا باسطورة الكبار في التاريخ الدبلوماسي مثل مترينخ الالماني, ولا يخفى على احد هذا الحبل السري بين سيكولوجيا الالماني والتركي.
ورغم ان رئيس الوزراء التركي الصاعد, اردوغان قال كلاما ناعما ومطمئنا في تلك الامسية ونفى ان تكون لبلاده رغبة طورانية (الثقافة القومية التركية) الا ان ثمة ملاحظات عامة ضرورية للتمعن في هذا الانبعاث العثماني الكبير:
1- حيث تشترك تركيا مع ايران في تقاسم الحضور في اسيا الوسطى والجمهوريات السو ييتية الاسلامية السابقة (البعد القومي التركي في اوساط شيعية مثل اذربيجان, والبعد المذهبي السني في اوساط فارسية, جماعة حكمتيار في افغانسنان مثلا, مقابل البعد القومي الفارسي في اوساط سنية حتى ان الرئيس الايراني نفسه, نجاد من اصول تركية, او البعد المذهبي الشيعي في اوساط تركية, اذربيجان كما ذكرنا). الا ان تركيا تتميز عن ايران بقبول عام بين ملايين العرب كما ان غالبية اليهود في العالم وبينهم اليهود الذين يحتلون فلسطين العربية باسم (اسرائيل) هم من اصول تركية (خزرية) مما يسمح للطورانية التركية ان تشمل هؤلاء اليهود ايضا.
2- ان التحولات الاقليمية, الدولية لتركيا ليست ناجمة كلها عن هذا الحنين للاسلام وقضاياه بل تعود, كذلك, الى وعي البرجوازية التركية الجديد التي اكتشفت متأخرة ان الاتحاد الاوروبي ليست اتحادا علمانيا, وان الاجراس تتعدى صلاة الاحد الى المصالح السياسية والاقتصادية, وبالتالي فان السوق الشرق الاوسطي والاسيوي اكثر ضمانا وفائدة مما يغري الاتحاد الاوروبي في المستقبل بالتفاهم مع انقرة (الامبراطورية) .
mwaffaq.mahadin@alarabalyawm.net
العرب اليوم