مسارات: المدرس الطريق المجهول الى قلب البتراء
عبدالرحيم العرجان
19-12-2020 04:33 PM
كلنا يعرف أن السيق هو الطريق الوحيد إلى قلب العاصمة النبطية البتراء إلا أن هناك منافذ ودروب قلة التي سار إليها وسط المدينة الوردية، ومعالم لم يتناولها الإعلام كثيراً أو تضمنت مناهج تاريخنا المدرسي في حين توسعت في وصفها المراجع الأجنبية والبعث البحثية منذ اكتشاف البتراء ليومنا هذا ومنها من أُطلق عليها مسميات تحتاج إلى تصويب وإعادة بحث وتعريف.
أما للجنوب من محطة الخيل أمام السيق، المدخل المتعارف عليه للمدينة الوردية "الرقيم"؛ فمن هناك اتجهنا لدربنا متخللين الشجيرات دون إشارة إرشادية لبداية الطريق الصخري ساحر الجمال، نحو درب المدرس بين قباب وحنى صقلتها الرياح وقنوات وأحواض شقتها معاول أجدادنا النبهاء لتجميع المياه لسقاية المدينة وري بساتينها بفكر استبق مهندسي القرن الواحد والعشرين وتغلبوا عليهم بالتكنيك وبساطة الوسيلة لا وبل اعجزوهم أيضاً بالحلول، فهم هؤلاء من أبدع بالحصاد المائي وفنون العمارة والبناء التي بقيت ماثلة ليومنا هذا منذ أكثر من ألفين عام خلت.
تخللنا معابر وصعدنا أدراج، قُطّعت بعناية بين الصخور وكأن أزاميل حرفيتها بارحت المكان أمس، حملنا الطريق لمطلنا الأول من فوق السيق وكيف شقت القنوات فوقه لمنع المياه من الانسياب آلية لحمايتها من الفيضان، والمشهد أعلاه مغاير كلياً لمن يسير بجوفه، فمن أبدع المناظر أن تكون في المكان الذي ينظر الناس إليه من أسفل، أخذنا الطريق الملون وكأننا نسير فوق قوس قزح لموقع مليء بالدهشة مغمورين عما عرفناه وعما تم نشره من صور، ومن فوق التل واجهتنا صخرة شبهها الفريق بالسلحفاة بنظرتهم الأولى ومن الجهة الأخرى كأنها طبق فضائي حط فوق المكان نقش عليه سلسلة للآلهة النبطية ومما عبدو من الشرى الذي حملت الجبال اسمه واللات والعزة وهبل آلهة العرب القدماء وشيخ القوم الذي كان يرافق الملوك برحلاتهم وقوافل التجارة وتيم الكتبا آلهة الكتابة، وبجانبها أيضا واجهة بداخلها كتابات وأشكال ورموز .
ومن الجنوب شدنا طريق متفرد وأدراج بجمال معماري أخاذ واجهتان وأمامهن بركة ماء عظيمة تغذيها قنوات تجميع من رؤوس الجبال والشعاب وأنابيب تصريف نحو قلب الوادي، وتكرر وجود سلسلة من الحفر المصفوفة من الأعمدة الطولية والعرضية تشبه لعبة السيجة او المنقلة وُضع لتفسيرها عدد من النظريات وتكررت في عدد من المواقع على الأرض، لتكون عند هذه النقطة استراحة قهوة الصباح مما كان جاهز معنا.
حملنا الأفق السهلي الذي كان بيدر قديم إلى فج آخر نقش على صخره الأحمر أفعى ونبتت من فوقها شجرة عرعر فنيقي متشبثة جذورها في أضيق الشقوق، وعلى الأرض كان هناك رموز وعلامات كأنها جزء من مجرة وآثار أقدام محفورة، في الجبل المحتضن للخزنة والمقابل لخبثى، ومنه شاهدنا ساحتها وزوارها من أعلى، أخذنا الدرب الذي دكته الأقدام لمطل المدينة ويستحق الجلوس والتأمل فيه، فكل المدينة تحت ناظريك حتى جرة الدير تراها من هناك، فجميل أن أحد السكان استغل هذا الموقع لعمل استراحة طريق بخدمات تعلوها ابتسامته وكلمات حفاوة وترحيب.
أخذنا الدرب عبر وادي انعشتنا ظلاله ونسيم هواءه وأعلاه تقف مسليتين بشموخ فسرهم البعض بالمزاول الشمسية أو لمعتقدات دينية واستخدامات جنائزية ولغاية اليوم لا يوجد تعليل ثابت لهما مع أن أجدادنا برعوا بدراسة الوقت والفلك والريح وتوظيفها بمواسم الزراعة وإدارة التجارة وقد تكون هذه المسلات وما حولها من خطوط ذات علاقة، ومن هناك كان الطريق إلى المذبح المقدس الأقرب إلى السماء، استقبلنا صوت ناي سيدة بدوية أطرب القلب وغرغر الروح، ومن عليه كان مشهد هدفنا الجبل الشامخ أم البيارة موطن الأدومين الحصين الموصوف من ثيودورس الصقيلي بالصخرة المنيعة.
ومن المذبح بدئنا بالهبوط نحو وادي فرسا المقدس عبر الدرب القديم لتتوالى المعالم واحداً تلو الآخر التي تذهل من زارها أول مرة، فكان أولها ذو الشرى وكأنه ينظر إلى المدينة بفخر مزين بإكليل غار مرتدياً على عضديه أساور، ومن واجهة الصخرة الأخرى ذو الشرى متربع فوق الجبل بهيبته العظيمة، وما هي إلا خطوات تخللها ممر محفور لنقف أمام أسد وردي عظيم النحت بشكله النافر المتقن على واجهة الجبل لا يقل جمالاً عن أسود بابل المجنحة، ومن القناة المائية من بين الفجوج كان يصب الماء من فمه للتبّرك والطهارة أو للشرب
والسقاية، أخذتنا الأدراج الضيقة لموقع أُطلق عليه ضريح الجندي الروماني بارتفاع يعادل أربعة طوابق أو يزيد وفوق مدخله انتصبت ثلاثة تماثيل لجنود بكامل عدتهم العسكرية الرومانية وداخله أقواس ومصاطب ضمن غرفتين ومنفذ للنور، أما مقابله كان أجمل المواقع الصخرية لقلبي وأروعها أنه القبر المزركش، ففيه اجتمعت كل ألوان الجبال الوردية وتركزت طاقة الجبل بداخله وتعددت النقوش من كوات ومصاطب وكرانيش وأمامه بناء يحتاج إلى ترميم ليكتمل المشهد، وفي مراجع الأمريكان كولوني في بدايات زيارتهم الأولى للمدينة قبل قرن ونصف اطلقوا عليه قبر النبي هارون الأمر الذي يحتاج إلى تصويب بموقعهم المتاح على الإنترنت ومراجعهم المطبوعة، ومنه بعددة أمتار قبر البستان وأمامه بركة قوسية العقود ومن فوقه خزان تجميع وعلى جدرانه إن أمعنت النظر ترى نقوش لبعض الحيوانات.
وبعد سلسلة من الواجهات والنقوش والكتابات أخذنا طريق امتلىء بكسر الفخار الأحمر الرقيق نحو جبلنا المنشود أم البيارة، من فوق سلسلة من الواجهات فائقة الجمال ومنها من تفرد بصخرة بحد ذاته، لنبدأ الصعود الشيق الصعب من فوق أدراج تاريخية وممرات عظيمة تتراوح بعرضها من مكان إلى آخر لتتسع لمرور شخص واحد فوق حواف شاهقة تحبس الانفاس، وبين كل مسافة وأخرى يتجدد المشهد وعمق الرؤيا للمدينة لبلوغ أعلى الجبل المستوي القمة ومشهد الروعة يأسرنا ويزيل عناء الصعود الحاد وأسفل منا كل شيء في المدينة من الحبيس للواجهات الملكية وجبل البروة الذي يفصلنا عنه وادي خروبة ابن جريم ووادي برقع والسيغ من الشمال ومشهد بانورامي لوادي عربة وطرق القوافل نحو بئر السبع وميناء غزة والأفق وكل جميل بناه أجدادنا العرب الأنباط.
لنعود أدراجنا لمركز الزوار عبر قلب السلع مروراً بالخزنة والسيق بعد مسار تاريخي متوسط الصعوبة بمسافة بلغت ثلاثة وعشرين كلم، مختتمين يومنا بعشاء زرب ومبيت بمخيم بمنطقة البيضاء.