أبواق الدعاية الأمريكية أصبحت كأنها إذاعة (صوت العرب)!
داود عمر داود
19-12-2020 02:42 PM
المتابع لأجهزة الإعلام الأمريكية، هذه الأيام، يظن أنه يستمع إلى أبواق دعاية الخمسينيات والستينيات، وكأن الزمان قد عاد بنا إلى أيام إذاعة (صوت العرب)، ومذيعها الأشهر أحمد سعيد، الذي كان تعليقه الناري، في نشرة أخبار الواحدة والنصف، بعد الظهر، يُدغدغ عواطف الجماهير العربية، من المحيط إلى الخليج، أو أن الزمان قد عاد بنا إلى أيام المقال الأسبوعي (بصراحة)، كل يوم جمعة، لكاتب جريدة (الأهرام) الأشهر، محمد حسنين هيكل، الذي كان يعكس فيه، أو يوجه، سياسة نظام جمال عبد الناصر، الرئيس المصري انذاك.
إعلام الماضي في أمريكا
أوجهُ شبهٍ كثيرة ومتعددة لأبواق الأمس عندنا، ولأبواق اليوم في أمريكا. فلا تكاد تخلوا نشرة أخبار من تعليق سياسي ناري لـ (أحمد سعيدهم)، أو (أحمد سعيدنا)، بنسخته الأمريكية. هذا الوضع لم يكن موجودا. فنشراتهم الأخبارية، من قبل، كانت تخلو من أي تعليق، ومثال ذلك ما كان يقدمه والتر كرانكايت، أهم مذيع ومحرر إخباري، لعقود. كانت نشراته تتسم بالرصانة، وانتقاء المفردات بدقة، وتتصف بموضوعية الصحفي وحياده ومصداقيته، بعيداً عن الكذب والتدليس، فكان نموذجاً يُحتذى في الإلتزام بالمعايير والقيم المهنية، التي يتعلمها طلاب كليات الصحافة والإعلام هناك. فواجب الصحفي هو نقل الحقائق ووجهات نظر أطراف القصة بتجرد، وهو ليس بوقاً لأي طرف منهم.
تشخيص لأبواق اليوم
أما اليوم، فقد اختلف الحال، وتدنى مستوى القيم المهنية، لدرجة أن وسائل الإعلام هناك أصبحت مثل نظيراتها، في دول العالم الثالث. فالتضليل الذي تمارسه، الآن، يشبه ممارسة إذاعة (صوت العرب). إذ اختفى الحياد، والتجرد، والموضوعية، وصار (أحمد سعيدهم) أيضاً يستغل نشرة الأخبار ليقدم تعليقاً نارياً، يهاجم فيه الخصوم، ثم يبث، فيما تبقى من الوقت، مقابلات تؤيد وجهة نظره.
وهكذا أصبحت النشرة تعبر عن وجهة نظر واحدة في المسألة، لا ذكر فيها للرأي الآخر مما عزز الإنقسام السياسي والاجتماعي، مع مرور الوقت، فأصبح لكل قناة جمهورها الخاص. فمن يتابع قناة معينة لا ينتقل إلى غيرها، ولا يسمع وجهة النظر الاخرى. كل طرف يعيش في عالمه، ولا وجود لنقاش عام مفتوح بين الأطراف، على كل وسائل الإعلام، كي تتوصل أطراف الحوار الى حلولٍ وسط، كما جرت العادة. ومن هنا نلاحظ أن هذه الممارسات الإعلامية ساهمت في تغذية الانقسام، خاصة في العشرين سنة الأخيرة، منذ تفجيرات سبتمبر 2001.
إذاعة (صوت العرب): فكرة أمريكية
يدرس طلاب الجامعات الأمريكية، مادةً العلاقة بين السياسة والإعلام، حيث تتضمن تجارب إعلامية مختلفة، منها قصة إنشاء إذاعة (صوت العرب)، وكيف ساعد الأمريكيون، مصر جمال عبد الناصر، في إنشاء هذه الإذاعة، كتجربة لاستقطاب الجماهير العربية، من خلال الترويج لفكرة القومية العربية، ومحاربة الإستعمار، ومعارضة الوجود البريطاني في (شرق السويس)، أي في الخليج العربي.
وقد نجحت الإذاعة أيما نجاح، فصنعت من عبد الناصر بطلاً قومياً، وجعلت مصر تتصدر زعامة المشهد العربي. وتزامن ذلك مع وجود ضابط المخابرات الأمريكية المعروف مايلز كوبلاند، مؤلف كتاب (لعبة الأمم)، إلى جانب عبد الناصر لسنوات طويلة، كلفه خلالها بتأسيس جهاز المخابرات المصري، وكان مستشاره الأول والأقرب. ومن بين ما يقال عن كوبلاند أنه كان يكتب خطابات عبد الناصر، بما فيها تلك التي كان يشتم فيها (الإمبريالية الأمريكية).
خلاصة القول: كيف انقلب السحر على الساحر
لقد ابتدع الأمريكيون فكرة إذاعة (صوت العرب) لمساعدة عبد الناصر في نشر نفوذه وهيمنته، بإستخدام أساليب التضليل، فكان لهم ما أرادوا. لكن لم يخطر ببالهم أن يأتي زمن تصبح فيه وسائل إعلامهم نسخة من (صوت العرب)، في التضليل وبث الفرقة والإنقسام، في عقر دارهم. وإذا كان لدينا (أحمد سعيد) واحد، فإن لديهم الآن ألف (أحمد سعيد)، يهاجمون مواطنيهم ممن يخالفونهم الرأي، يومياً. وهكذا إنقسمت أمريكا ولم تعد جسداً واحداً، ودخلت نفقاً مظلماً، وإنطبق عليها قول أمير الشعراء أحمد شوقي، في مسرحية كليوباترا: (هداك الله من شعب بريء ... يصرفه المضلل كيف شاء). فلقد مارسوا التضليل، وها هم يشربون من نفس الكأس، فقاد ذلك إلى هبوط فكرهم السياسي، هبوطاً مريعاً، لا علاج له، ولا رجعة فيه.